عندما ساقنا القدر للتدريس في منطقة نائبة عشنا كمجموعة كبيرة من المعلمات في عمارة واحدة وفي شقق قريبة، كانت العمارة تزين وحشة الغربة في نفوسنا الداكنة، قد يعود ذلك إلى سوء تصاميمها الهندسية، أو لأن الدهر أكل عليها وشرب، أو لكثرة الحشرات التي تحترق غرفتنا من دون استئذان. ولعل الشيء الوحيد الذي كان يخفف عنا هموم الغربة هو تلك الأمسيات الجميلة التي كنا نقضيها مع بعضنا البعض، فقد كانت أحاديثنا متشعبة، وفي كل الاتجاهات تعرفنا من خلالها على اللهجات المتعددة والتقاليد المختلفة، فقد كن من مناطق متفرقة من وطننا ومن تخصصات متنوعة، وزادت حصيلة معلوماتنا تعدد المواد التي نُدرِسها، فقد كانت معلمة الجغرافيا مثلاً تدرس، إضافة إلى تخصصها، مادة عربي وعلوم، وفنية وتدبير منزلي، وكن أثناء التحضير نستعين ببعضنا البعض. وذات ليلة شديدة البرودة كسرت زميلتنا روتين أحاديثنا المعتادة، حينما قالت وهي تتأمل تساقط قطرات المطر على النافذة:"لقد اشتقت إلى جارتنا"، فقلن لها ببراءة:"ولما لا تتصلي بها". ابتسمت زميلتنا ابتسامة ساخرة وقالت:"جارتي هي مقبرة". رنة كلمة مقبرة رنة عنيفة في نفوسنا وكأنها صفارة إنذار... حدقنا في وجهها بذهول وكنا على وشك الإغماء، ثم تابعت قائلة:"نعم جارتي مقبرة.. منذ صغري وأنا أنظر اليها من خلال نافذتي، فقد كان منزلنا قريباً منها... ولطالما وقفت أتأمل تلك القبور وأمعن التفكير في أحوال أصحابها.. وكان يحلو لي أن أفتح النافذة في منتصف الليل، فالظلام يغلف المكان، والهدوء المخيف يخيم على القبور". وما أن سمعنا كلمة منتصف الليل حتى التمعت عيوننا بالدهشة، واقشعرت أبداننا، وارتعدت فرائصنا... وزميلتنا تسترسل في التعبير عن عواطفها الجياشة تجاه المقبرة.. غير مبالية بالتغيرات النفسية التي نعاني منها. فتساءلت قائلة:"كم هي مربكة رؤية القبر الجديد فكلما سمعت عن وفاة أحد... ركضت إلى غرفتي وفتحت نافذتي.. لأرى تلك الجموع من الناس تحتشد عند المغتسل.. فما أن يخرج الميت منه محمولاً على النعش حتى ينهض الناس للصلاة عليه وكأني اسمعهم يهتفون في أعماقهم بصمت قائلين: أنت اليوم ونحن غداً. فكلما رأيت أباً إلى جانب ابنه في الشارع أو في السيارة تنكأ جراحي وتتأوه. ولطالما بكيت في يوم مجلس الآباء الذي يقام في مدرستنا، حيث كنت أتصفح الوجوه لعلي أراك تسأل أساتذتي عني وعن مستواي الدراسي. لكم أعددت لك من القبل الكثيرة لكي أطبعها على جبينك وما بين عينيك. وكم تخيلتك أني أرتمي في احضانك وتزيل بيدك أحزاني الصماء حين تمسح بها على رأسي المثقل بالأفكار التي طالما حرمتني من متعة الحياة. ما عساي أن أفعل اليوم يا والدي، وأنفاسي في هذه الدنيا أوشكت على الانتهاء. ولم أرك حتى لتودعني. فهل إحدى عشرة سنة لم تكن كافية لأن تنسى زيجتك الفاشلة؟ ولكنني يا أبي أسامحك على رغم قسوة الانتقام". أنا على يقين أن هناك أطفالاً يتجرعون مرارة اليتم. وآباؤهم على قيد الحياة.. فإذا قدر لنا أن نلتقي بهم لنعطف عليهم ولنرحمهم، وإذا كان باستطاعتنا أن نقدم لهم المساعدة فلا نتأخر. ولعل أبسط الأمور أن نبادرهم بالكلمة الطيبة فننساهم في نشر الرحمة والإنسانية في عتمة لياليهم القاسية. عاتكة دهيم - صفوى أستاذة علم الاجتماع