الناقد عضو مجلس إدارة نادي جدة الأدبي الدكتور حسن النعمي واحد من الأسماء التي قدمت اشتغالات لافتة، على صعيد تأمل النص الروائي، والخروج ما أمكن باستبصارات نقدية جديدة، تصلح في كثير من الأحيان، لمقاربة عدد من الروايات المختلفة، إن على صعيد البنية السردية، أو الموضوع. وهو في الأساس كاتب قصة قدم أسهاماً مميزاً، خصوصاً في مجموعتيه"زمن العشق الصاخب"و"آخر ما جاء في التأويل القروي"، لينصرف بعدها إلى التخصص الأكاديمي، والاهتمام بالرواية تحديداً. التقته"الحياة"وحاورته حول الرواية النسائية، والمجتمع المحافظ، وإيديولوجية الخطاب وعدد من القضايا المهمة. هنا حوار معه. يكشف كتاب"رجع البصر"عن مادة نقدية ثرية تناولت من خلالها المسائل العالقة بالخطاب الروائي المحلي، مثل السمات التي صبغت هوية التجربة السردية، لغة الخطاب وموضوعه والتشكيل المعرفي للتجارب الروائية، هل هناك نية لاستمرار مشروعك النقدي، من خلال طرح أجزاء لاحقة تواكب التطورات المرحلية لمسيرة السرد المحلي؟ - لا أدري إن كان يحق لي تسميته بالمشروع، لكنني معني برصد المنجز السردي، خصوصاً الروائي في السعودية بحكم اتصالي المباشر بتجربة الرواية السعودية قراءة ودراسة ومواكبة لتطورها. واهتمامي بالسرد يأتي من منطلق اضطلاعي بالكتابة السردية أولاً، وثانياً للتخصص في الدراسات السردية. غير أنني في تناولي للرواية أركز بشكل أكبر على التقاطعات بين الرواية من ناحية، وبين المجتمع خصوصاً في تركيبته المحافظة. فالرواية شكل من أشكال الحداثة، تعيش في المجتمع ذي بنية محافظة مركبة من الديني والاجتماعي. فهو مجتمع يكرس القطيعة مع المنجزات الحديثة في شؤون الفكر والثقافة، لكنه يندفع لاحتضان ما سواها من التطورات المادية المعقدة. وهو بطبيعة الحال مجتمع منقسم على ذاته. فهو، بهذا المعنى، مادة خصبة للرواية نقداً وتشريحاً واستفاضة بالأسئلة المقلقة ذات التكوين الاستفزازي. من هنا أتفهم سيل الروايات المعنية بمشاغبة المسكوت عنه رغبة في تقديم رؤية مناهضة للمحافظة. أما عن استمرار تفاعلي مع الرواية السعودية فذلك أمر حتمي بالنسبة إلي، أولاً بداعي التخصص، وثانياً استكمالاً لمنظومة الأفكار التي أتعقبها في مضمرات الخطاب الروائي. فأنا مهتم بالرواية بوصفها خطاباً فكرياً أكثر من كونها شكلاً فنياً، مع التأكيد أن الاشتغال على الخطابات المضمرة لا يلغي مراقبة التشكل الفني للرواية السعودية. ثقافة المجتمع المحافظ والرقابة المجتمعية، هل تشكل، في رأيك، عائقاً في التدفق الإبداعي عند الكاتبة السعودية؟ وهل نعتبرها أسباباً أسهمت في تأخر ولادة عمل سردي يتميز بلغة شعرية وبلاغة أنثوية تحقق تميزاً إبداعياً ونقلة نوعية في لغة الرواية النسائية السعودية؟ - لا بد أن نفصل بين المحافظة والرقابة. المحافظة منهج اجتماعي يقوم على قناعات التحوط والاحتراز، وهذا يعني أن المحافظة إجمالاً ليست منهجاً جامداً، لكنها منهج لا يسلم بالجديد إلا بصعوبة، ولا يتنازل عن منظومة معتقداته إلا اضطراراً. من هنا يتعرض المجتمع المحافظ إلى ضغط دعوات التجديد والانفتاح. وفي سياق دعوات الانفتاح تستحضر المحافظة عوامل الدين والهوية، دفاعاً وبحثاً عن سلطة عليا تعفيها من المساءلة الاجتماعية التي تطالب بالتغيير. فالمحافظة لها مكتسبات اجتماعية. فهي خيار تقابله خيارات أخرى في المجتمع. هنا ينشط الروائي في تحريك هذه الخيارات واختبار إمكان تبديل مراكزها وأولوياتها. من هنا يحدث التوتر بين من يكتب بهذه الطريقة، ومن يرى أن هذه الكتابات زعزعة لمكتسبات المجتمع المحافظ. أما الرقابة فهي سلطة على الكتاب وليس الكاتبات فقط كما فهمت من سؤالك. غير أن الكاتب الفنان يستطيع أن يتجاوز إشكالية الرقابة الصارمة. فنجيب محفوظ استفاد من درس رواية"أولاد حارتنا"التي منعت لأسباب دينية، إذ قدم الفكرة نفسها في عدد من رواياته اللاحقة، مثل رواية"قلب الليل"و"الحرافيش"وغيرهما، ولم يلتفت إليهما أحد بالقدر الذي حدث مع رواية"أولاد حارتنا". ويعود نجاح نجيب محفوظ في تعامله مع الرقابة الدينية والسياسية والاجتماعية إلى معرفته بكيفية تقدم أفكاره، بشكل فني مجرد من الخطابية والمباشرة التي وقع فيها بعض كتاب الرواية في السعودية. والرقابة لها أوجه متعددة، فهناك رقابة الكاتب على نفسه، ورقابة المجتمع، وهما رقابتانا يمكن التعامل معهما، لكن الرقابة الأكثر تحدياً هي الرقابة السياسية التي يكون منطلقها أمني بالدرجة الأولى. وهذه الرقابة تنشط في مجتمعات العالم الثالث بحكم بنيتها النفعية المعقدة. تقول:"يحتاج الروائي من أجل أن يكتب رواية أن يعيش بعيداً عن الظاهرة، حتى يتمكن من التعبير عن تجربة التحولات الاجتماعية والاقتصادية بنوع من الرؤية غير التسجيلية"، كيف تقوّم تجربة الروائي عبده خال في رصده لثقافة المجتمع السعودي من خلال رواية"فسوق"؟ - عبده خال كاتب أنضجته التجربة الروائية، ففي رواياته الأولى كان أقرب للفنتازيا، خصوصاً في رواية"الموت يمر من هنا"، لكنه في رواية"فسوق"على سبيل المثال كان حاضراً بحسه الاجتماعي، وكأن الرواية كتبت للانتصار للمرأة، لا من خلال الشعارات، بل من خلال بيان أن مأساتها مصدرها الرجل. لقد وجّه في الرواية نقداً عنيفاً للرجل الفرد والمؤسسة على السواء، فظهر بوضوح تحميل مسؤولية اختفاء جليلة للمؤسسة الدينية بالقدر نفسه الذي تحمله الرجل الفرد. غير أن الروايات من هذا النوع تسقط أحياناً في المباشرة، وهو ما عانت منه رواية"فسوق"في بعض مراحلها، وهو ما أتوقع أن عبده خال قد تنبّه له. في كتاب"رجع البصر"تناولت نماذج روائية غلب عليها الطابع التوثيقي، من حيث لغة الخطاب، لنتحدث عن تجربة أخرى، كتجربة محمد حسن علوان الذي يمتلك تجربة روائية تميزت بلغة شعرية؟ - التوثيق في الأعمال الروائية انحراف عن دور الرواية إلى اقتفاء أثر المؤرخ وعالم الاجتماع، وكتابة الرواية بهذا الشكل تفقدها صلتها بالرواية الفنية، الرواية الموازية للواقع، الرواية التي تكتب للبحث عما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن. كتابة الرواية وفقاً لمنهج التسجيل والتوثيق هي كتابة للكائن المنجز في الواقع، وهذا النوع من الكتابة هو دور المؤرخ وربما كتاب السيرة بوصفه يقدم شهادة على عصره، موظفاً فيها تقنية الرواية ليس إلا. أما كتابات محمد حسن علوان، خصوصاً روايته"سقف الكفاية"فهي رواية تقدم نفسها بلغة شعرية فارهة، غير أنها لم تخسر وظيفتها السردية. أما الإشكالية التي لاحظتها في رواية علوان فتكمن في عدم التوازن بين الوصف والسرد، وهي مشكلة عبده خال كذلك، بل مشكلة كثير من الكتاب المحليين. ففي روايات علوان وخال ولع بالوصف على حساب السرد، وعلى رغم جماليات الوصف وإمكانات توظيف الجمل الشعرية المحلّقة، إلا أنها تخثّر السرد وتحد من نموه عندما يحتاج الحدث للحركة والتقدم. وعلى رغم ما سبق فإن تجربة علوان تجربة مميزة واستثنائية في مسيرة الكتابة الروائية، وحظيت رواية"سقف الكفاية"بالكثير من المتابعة، وهو ما لم تُحْظَ به أعماله اللاحقة لسبب غير معروف بالنسبة إلي. هل هناك أزمة نقد بالفعل، وهل السبب هم النقاد، أم النظريات الموظّفة في النقد، أم طبيعة الثقافة؟ - ربما هناك أزمة متابعة للمنشور الإبداعي، وبالتأكيد النقاد لا يتحملون هذه المسؤولية. إن الاشتغال بالنقد في الصحف معناه التفرغ، وهذا غير متوافر. وهنا تأتي مسؤولية الصحف في الاستكتاب لما يحققه من التزام ومتابعة دقيقة. ولأن معظم الصحف غير مهتمة بالشأن الثقافي نشأ هذا الفراغ الكبير، بين ما ينشر من الإبداعي الأدبي وبين تلقيه والكتابة عنه. من ناحية أخرى يفضّل الكثير من المشتغلين بالنقد إنتاج دراسات نقدية ومعرفية، لأغراض نشرها في كتب أو التقدّم بها للترقيات العلمية لمن هم في سلك التعليم الجامعي. هل يمكن تطبيق أدوات النص الأدبي على نصوص أخرى غير النص الأدبي، وكيف يمكن إزالة التوتر القائم بين أنصار النقد الثقافي والنقاد المحافظين بخصوص مفهوم النص وهل الخلاف ورفض التجديد يخدم الواقع الثقافي المعاصر؟ - إن كانت القراءة شكلية، فكل نص له إجراءاته أو أدواته الخاصة، فلا يجوز الخلط في هذه المسألة، فالقراءة في البنية السردية تحتاج إلى استخدام أدوات السرد من حيث استحضار عناصر البنية السردية. أما إن كانت القراءة تأويلية أو سميائية أو دراسة في الخطاب بالمعنى الذي يتبناه ميشل فوكو، فهي قراءة تصلح لأي نص، بل وضرورة لمقاربة المستتر في تركيبة الخطاب في عمل أو مجموعة أعمال أدبية أو غير أدبية. تجربتك الإبداعية في مجال القصة القصيرة، وتجربتك في مجال النقد والعمل الأكاديمي وغيرهما، مجموعة تجارب مميزة كيف استطعت التوفيق بينها؟ - تجربتي مع القصة أقدم من تعاملي مع النقد والعمل الأكاديمي، فقد بدأت كتابة القصة في أواخر السبعينات الميلادية، أما النقد فهو ناتج عن ولعي بمتابعة النقد السردي منذ بدأت اكتب القصة، وقد توجت هذا الشغف بالتخصص الأكاديمي، حيث أتاح لي أن أوجه تعاملي مع النصوص من منظور علمي يبحث في الظاهرة بروية وتدقيق. فمن خلال القصة أضع الأسئلة ليأتي من يقوم بفك شفراتها، أما في النقد، فأتساءل وأبحث في أسئلة غيري، وفي التخصص الأكاديمي، أعمق صلتي بالدرس النقدي المنهجي عبر أبحاثي ودراساتي عن السرد، كما أوجه طلاب الدراسات العليا لمزيد من المغامرة في التعامل مع قضايا السرد. فأنا، كما ترين، أجد تكاملاً كبيراً، بين هذه المكونات. أخيراً هل من مشاريع أدبية تسعى لتحقيقها في الفترة المقبلة؟ - أنهيت مشروع الكتاب الذي أسندته إلي وزارة الثقافة والإعلام وهو بعنوان"الرواية السعودية: واقعها وتطلعاتها"وسيصدر قريباً بحسب علمي. هناك كتاب عن السرد القديم بعنوان"مجازات السرد"، ورواية بعنوان"العين السحرية"وهما جاهزان للطبع. حيل نسائية سردية ... تقصي الرجل يقول الناقد حسن النعمي تعليقاً على إقصاء الرجل والهروب إلى مكان سردي بديل، من أجل كسب الحضور وتحقيق انفتاح اجتماعي وثقافي، إلى آخره من سمات ميزت موضوع الخطاب النسوي في المشهد الروائي السعودي،"في عام 2003 طرحت فرضيتي إقصاء الرجل، والمكان البديل في الرواية النسائية في ورقة قدمتها في ملتقى جماعة حوار بنادي جدة الأدبي. ففي الفرضية الأولى، إقصاء الرجل في الرواية النسائية السعودية، يتم إقصاء الرجل عن مسار السرد بحيل سردية مختلفة حتى تتمكن المرأة من الحضور والهيمنة بخطابها. وقد تم قراءة هذه الفرضية من خلال 15 رواية نسائية كلها استخدمت إقصاء الرجل". ويضيف:"هذا الاطراد مكن الفرضية من أن تتعز وأن تفترض أن المرأة لا تكتب الرواية لذاتها، بل لتمارس فيها دوراً اجتماعياً غاب عنها في الواقع. فالكاتبات في السعودية يتخذن من الرواية منبراً للبوح بأفكارهن وانتقاداتهن للواقع الاجتماعي، ويمكن أن نستثني من هؤلاء الكاتبات رجاء عالم، فهي لا تتخلى عن الفرضية، لكنها تقدمها ضمن بناء روائي محكم. بينما الكثير من الكاتبات يغرقن في إيديولوجية الخطاب والبوح الاجتماعي والتحريض على الاستقلالية من دون معرفة أنهن ينتقلن من إقصاء إلى إقصاء، فالرجل يمارس إقصاءه في الواقع والمرأة تمارس إقصاءها في السرد". موضحاً أن السرد معني بما ينبغي أن يكون، باستشراف مقاربة منطقية للأسئلة، لا التكريس السلبي وتصفية الحسابات كما في رواية المرأة السعودية. واستطرد:"أما فرضية المكان البديل، فقد جاءت من خلال ملاحظة حضور المكان البديل لبيئة الكاتبة. فقد حفلت الروايات الأولى منذ روايات سميرة خاشقجي وحتى روايات المرأة في الثمانيات الميلادية بتغييب متعمد لبيئة الكاتب واستحضار مكان بديل واقع أو متخيل ما من حيث التغير منذ صدور كتاب"رجع البصر"في 2004، فبالنسبة لموضوع إقصاء الرجل فما تزال الكتابة الروائية النسائية أسيرة لموضوع الرجل سواء الفرد أو المؤسسة، ونادراً ما تخرج رواية المرأة عن خطاب إدانة الرجل في كتابتها، أما بالنسبة لفرضية المكان البديل فقد وجدت تغيراً ملحوظاً في تسمية المكان الصريح وربط الأحداث بسياقاتها الاجتماعية المحلية، ويكفي أن نتذكر رواية"بنات الرياض"في هذا السياق التي ربطت المكان بصلب أحداث الرواية، فاستعادت أصالة المكان روائياً واجتماعياً. ولعل أحد أسباب ارتفاع مقروئية رواية"بنات الرياض"يعود في جزء منه إلى التصريح بالمكان في العنوان، وإدارة حوادث الرواية في عمق اجتماعي اتسم بالمحافظة ولو ظاهرياً".