كم هي جميلة تلك المشاعر العميقة الصادقة، التي تبوح لك بما في القلب من إخلاص ووفاء، تلك المشاعر النابعة من الفؤاد والأحشاء يستحيل أن تجدها في بشر سوى هذين الملكين اللذين اصطفاهما الله لمحبتك ورعايتك، فلا شبيه لهما في الوجود بما يحملانه من حب صادق خالص، لا يرجوان منه سوى أن تصبح شخصاً عظيم، يفرض شخصيته الناجحة أينما كان بوجه الحق، ويسمو بنفسه وبمن سهر على رعايته حتى وصل إلى تلك المكانة العظيمة، ويؤدي رسالته في الحياة على أكمل وجه، وهذا هو حلم الملائكة البشرية المجنحة على طيور السماء. هذان الملكان هما اللذان أوصت بهما شريعة كل مسلم، وتوعدت لمن يغضبهما ولو بكلمة بسيطة لا تتجاوز الحرفين"أف"، وقد قال فيهما الله تعالى: ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً وقد جاء رجل للرسول"صلى الله عليه وسلم"فقال له إنه يريد الجهاد معه، فسأله الرسول: أحية أمك؟ قال نعم، قال فاذهب إلى أمك وبر بها. ذلك ما نصت عليه شريعتنا الكريمة، وسارت به نواميس الحياة وفطرتها بأنه لا حياة لمن لا خير فيه لوالديه، كيف لا؟ وهما اللذان أفنيا حياتهما وشبابهما من أجلنا، وقد يضحيان بكرامتهما وعزتهما من أجل سعادتنا وتحقيق مطالبنا، وحتى لا نشعر يوماً بأننا أقل ممن سوانا، هذان القلبان الكبيران بما يحملانه من إحساس مرهف ومشاعر روحانية صادقة عظيمة تجاوزت القدرة البشرية من العطاء، فمهما كانت محاولاتنا لبرهما ورد معروفهما فذلك قد يكون أقرب إلى المستحيل. فتخيل منذ أن خلقت وقبل أن تخلق أيضاً، وأثناء حياتك يبدأ دورهما معك من رعاية وسهر واهتمام، ولا يملان ذلك الجهد بل يستعذبان كل دقيقة فيه ويشعران بأن ذلك جزء من سعادتهما، وإذا مرضت يوماً أو أصابك أذى هنا تكمن المصيبة المزلزلة لقواهما، وتنقلب الحياة رأساً على عقب، وتصبح الدنيا في عينيهما أشبه بالمظلمة القاتمة التي لا عيش فيها ولا حيلة منها سوى الموت، تخيل ذلك بصدق وإمعان وأيقظ ضميرك كي تستشعر معاني ذلك الخيال، عندها ستجد ما تجد من رهبة لذلك الموقف وتقدير وإجلال، وتعظيم لهذين الملكين اللذين سخرهما الخالق لرعايتك ومحبتك من قبل أن تُخلق، إلى أن تكبر وتنضج وتعي الحياة بكل مسؤولياتها.. ولا نقف هنا فحسب بل غالبا ما تستمر رعايتهما لنا حتى بعد مراحل النضوج والبلوغ. كل ما في هذه الدنيا من حب ومشاعر رقيقة تجدها في هذين القلبين الحنونين، عندما تحتاج من يقف بجانبك في كل لحظة حرجة وفرحة، عندما تحتاج لذلك الدعم المعنوي، الذي يحفزك ويبرق بأسارير وجهك ويُشعرك بمعنى الحياة والتفاؤل، عندما تحتاج لحب عميق وحضن دافئ وقلب حنون، فقلما تجد ذلك خالصاً لوجهك في زمن أصبحت المادة والمصلحة هي المسيطرة والمحددة لنوعية العلاقات، ففيمن ستجد كل ذلك سوى في هذين الملكين؟ ها قد حان دور كل من بلغ الشباب والنضج، وتجاوز مرحلة الطفولة، وبدأ ينظر إلى الحياة نظرة صحيحة توقظ ضميره وتستثير مشاعره، حان الآن بأن يوقن بابتداء دوره، ورد ولو جزءاً ضليلاً من المعروف حتى لا يندم بعد فوات الأوان ويفقد هاتين الجوهرتين بخسارة فادحة، لم يكسب منها سوى العقاب المنتظر لعقوقه وساعات طويلة من القلق النفسي والترقب لذلك المصير المؤلم الذي يطارده في مخيلته وأحلامه عاجلاً كان أم آجلاً. فكما حان دوره في رد المعروف، سيحين دوره أيضاً في استقبال تلك الردود من فلذات كبده"أولاده"مستقبلاً. پ أبرار السقاف - الرياض