هكذا يقول بلسان حاله، وهكذا تقول ممارساته السياسية والاقتصادية وعلاقاته بالآخر، في حين لا يزال بعض المهووسين بحضارته يدعونا إلى التجرد عن كل خطاب كراهية تمس الغرب بسوء من أجل أن يكون الحال بعد ذلك ما بعد خطاب الكراهية... الغرب شريكاً! ومن التبسيط لطبيعة علاقتنا بالغرب وحضارته أن يتوهم هذا أن مسألة مشاركتنا للغرب في حضارته القائمة ليس لها عائقٌ إلا خطابات الكراهية التي نبديها نحو الغرب... وأنه ليس بيننا وبين أن نتحرر من التخلف والتأخر، ثم نلحق بركب الحضارة إلا أن نتعاطى مع الغرب باعتباره شريكاً في الحضارة"حتى نُسهم فيها كإسهامه، والنهاية التي يريد أن يصل إليها صاحب هذه الفكرة الخلاقة هي اتهام كل من يلوك خطاب الكراهية للغرب بأنه هو سبب تخلفنا، وهو العائق دون وثبتنا الحضارية "ليجعل منه شماعةً يعلق عليها كل أخطائنا وتخلفنا! بدايةً لا بد من التنويه بحقيقة لم تعد تقبل جدالاً، وهي أن الغرب أقام حضارة مبهرة - بلا شك - ولا ينفي نسبتها إليه أن شاركت في إبداعاتها بعض العقول العربية والإسلامية المهاجرة، وأن الغرب قد أفاد كثيراً من النتاج العلمي والفكري للحضارة الإسلامية، فيظل مع ذلك كله سيدَ الحضارة المعاصرة وربانها، فالعقول المشرقية المبدعة لم تكن لتهاجر وتبدع وتنتج لولا تقديرُ الله أن يكون الغرب هو المناخ المناسب لتلك الإبداعات، فتهيأ لها في بيئاته الحضارية ما لم يتهيأ لها في أوطانها، ويَسّر لها أدوات البحث العلمي لتنتج وتُسهم في حضارته، فإذا قدرنا أن الغرب مدين لهذه العقول المهاجرة فهي مدينةٌ له قبل ذلك"لأنها وجدت في بيئته الحضارية ما جعلها تبدع وتنتج. وكذلك إفادته من الحضارة الإسلامية لا تسلبه هذه الصدارة ونسبةَ حضارة العصر إليه"لأن نسبة ما أضافه مما أفاده منها - بنظرياتها واكتشافاتها ونتاجها - كالنسبة بين الشمس والقمر، ومهما تكلفنا في إثبات إفادة الغرب من نتاج حضارتنا الغابرة، فلن نستطيع بهذا التكلف الممجوج أن نزاحمه على صدارته، أو أن نجعل من أنفسنا شركاء له فيها. ومهما قلنا في الحضارة الغربية من انحرافات وأخطاء وسوآت، فإن ذلك لا يسلبها وصف الحضارة، ولا يقلل من نواحيها الإيجابية الإنسانية. ولا يصح القول بأن الغرب إنما تقدّم وتحضر لأننا تأخرنا وتخلفنا"وكأننا نحن الذين وهبنا الغرب فسحة الطريق لكي يتقدم وينطلق متحرراً، ولكنه تقدمَ وتحضر لأنه أخذ بأسباب ذلك، وما وصل إليه اليوم كان تضحيات أجيال تتابعت على هذه العزيمة، والسنن الكونية لا تحابي أحداً. وبعد التذكير بهذه الحقائق المُرة يرد سؤال: هل يرضى الغرب لغيره خصوصاً المسلمين أن يكون شريكاً له في حضارته، فيتفوق فيها كتفوقه؟ والجواب: أن إفادتنا من حضارة الغرب وتواصلنا معه لا يعد مشاركةً في الحضارة حقيقةً، فمن المعلوم أن الغرب حريص أن يستثمر حضارته، وأن تكون بلاد العالم كلّها سوقاً مستهلكة لمنتجاته الحضارية والصناعية، وهو - إلى ذلك - حريص أشد الحرص أن يصطبغ العالم أجمع بقيمه وثقافته، ولو لم يجد الغرب سوقاً لمنتجاته الحضارية لما نجح في بناء حضارته إلى هذه الدرجة. وفي هذا جواب لمن يستعجب منّا بشيء من السخرية: كيف نكره الغرب ونسبه ونحن متلبسين بمنتجاته الحضارية التي يسرت لنا كثيراً من سبل الحياة ؟ كأنما يريد أن يذكرنا بأن للغرب منّة علينا في هذا الترفه، لكنه ينسى أن ما من شيء إلا وهو مبذول بثمنه أو أكثر، وأن فرح الغرب بشرائنا لمنتجاته وإفادتنا منها أشد من فرحنا نحن بها. وإلا فيلزمه على هذا أن لا يبدي كراهيةً أو نقداً لأي مجتمع أو دولة نستورد منها ما نحتاج إليه، ولو كان من الحبوب والتوابل! ألسنا بحسب منطق هذا نقتات على ما يصدروه لنا، بل إن هذا المنطق ليمتد للغرب نفسه، كيف يمارس معنا هذه السياسة الجائرة ونحن الذين نصدر إليه وقود مصانعه ومركباته؟ عموماً من يأخذ بهذا المنطق سيخسر كثيراً، وسيعرض عقله للسخرية. إن المشاركة التي يريدها لنا الغرب في حضارته محصورة في استهلاك منتجاته، والتلبس بقيمه، والاصطباغ بثقافته، ليس إلا ، أما ما سوى ذلك فإن الغرب نفسه لا يريد أحداً يشاركه في هيمنته الحضارية، يريد أن تكون الهيمنة له وحده، وأن يظل الآخرون له تبعاً يقتاتون منه ويتوجهون وجهته، ولطالما حارب وعادى كل من طمع في هذه المشاركة التي يدعونا إليه بعض الكتّاب، ومن مغالطة الواقع والجهل بالتاريخ القريب أن يظن ظان أن الغرب يرحّب بنا شريكاً له في الحضارة ننافسه في ميدانها، وهل يجهل هؤلاء أن الغرب نفسه له يد غير خفية في ما نحن فيه من تخلف يحكمه الاستبداد والخيانة"لأنه استطاع بسبب ذلك أن ينهب ثرواتنا وخيراتنا، وأن يستريح من أمة البليون أو أكثر أن تنافسه وتزاحمه في قمته. أما خطاب الكراهية الذي يبديه عقلاؤنا من العلماء والمفكرين والمثقفين تجاه الغرب فينبغي على هؤلاء المناوئين له ألا يرتعبوا منه كثيراً، فلم يكن عائقاً عن التحضر، ولا سبباً واصلاً للتخلف والرجعية، وليس هو بالذي يدعو إلى المواجهة لزاماً، إنما هو تعبير عن يقظة ضمير يحاول أن يبقي شيئاً من كرامته التي تآكلت بسبب محاولات المشاركة المزعومة، وإنما هي التبعية المطلقة، والإسهام في المشاريع التغريبية. نعم ليس الغرب بالمسؤول عن تخلفنا، ولكن أيضاً ليس خطاب الكراهية بالذي يحرمنا من المشاركة الحضارية، وليس بالذي يمنع من التعايش السلمي الذي يحتاج إليه الضعيف. واليابان التي يضرب بها هؤلاء المثل في تواصلها الحضاري وتعاملها مع الغرب باعبتاره شريكاً لا عدواً لم تتعامل مع الغرب بشعور مجردٍ عن الكراهية في خطابها ونظرها، بل إن شعور الكراهية تجاه الولاياتالمتحدة تحديداً الممتزج بمرارة الإهانة كان دافعاً قوياً لليابان لا للمشاركة الحضارية فحسب، بل للمنافسة والمزاحمة. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]