نعم، نحن لا نشك في أن الغرب يمسك بأكثر من ميزان في متجره الكبير: هذا للقريب القريب، وهذا للقريب البعيد، وهذا للبعيد، وهذا للبعيد البعيد، وهذا حين نريد أن نعرض على العالم أخلاقنا ومثلنا وديموقراطيتنا وعدالتنا، وهذا حين تستدعي الظروف أن نلف وندور حول هذه الأخلاقيات للخروج بأحكام تلبس مسوح الحق والعدالة، ولكن لا منطق فيها ولا عدالة ولا حقوق ولا مساواة. نعم هكذا الغرب، فمصلحته هي مكياله، وأحياناً المصلحة الشخصية لصاحب القرار فيه، حتى إنْ خانه الذكاء أحياناً فظن مصلحته أو مصلحة بلاده في مكيال، وهو لا يدري أنها هناك في المكيال الآخر. ولكن أين نحن من هذه المعادلة؟ وهل الغرب وحده هو الذي يملك في خزانة مقتنياته الأثرية تلك المجموعة الثمينة من الموازين، يستخدمها حين يشاء، ويتعامل بها مع من يشاء؟ أم أنّ لنا خزانتنا أيضاً، وفيها من الموازين العجيبة ما ليس عند الغرب، وبينها من النوعيات ما لم يحلم الغرب بالوصول الى درجته وغرابته وتفرده؟ ان كل الأحداث المعاصرة، وما قبل المعاصرة، تؤكد ان الغرب كان ملتزماً بمبدأ "مكيال المصلحة" حتى ان أخطأه الذكاء في أحكامه أحياناً، اختلطت بين يديه الموازين، ولم تسمح له نظرته المادية القصيرة المدى بالتمييز بين مصلحته الآنية، التي تقدم له وجبة ساخنة شهية سريعة - على طريقة ماكدونالدز - ومصلحته الاستراتيجية الطويلة المدى. فهل كال العرب بمكيالين، كما فعل الغرب الأميركي، حين وجدوا أن مصلحتهم في "المكيال الآخر"؟ "نعم" و"لا" معاً!! أما "نعم"، فلأنهم كالوا بمكيالين حقاً، وأما "لا" فلأنهم غيّروا مواقع المكاييل فاختاروا أن يكيلوا لأنفسهم بمكيال الآخر. لقد اتخذوا المكيال الذي ترجح فيه كفة الآخرين على كفتهم، فما كان لهم فيه مصلحة وقوة ومهابة، نبذوه وحاربوه، وما كان لهم فيه إضعاف نشأتهم، ونيل من درجتهم، واحتقار لأمرهم، تبنوه وقدموه وأخذوا به! حادثة صغيرة مرت بي، ولا أشك في أنها مرت بكثيرين منا، فلم يتوقفوا عندها، ولكنها تمثل هذا الميزان العربي العجيب الذي غدا ظاهرة في حياتنا اليومية. يدخل أحدهم على جماعة ممن يحرصون على أن يطعِّموا كل جملة أو عبارة في حديثهم بكلمة فرنسية أو انكليزية - على رغم انهم لا يعيشون، ولم يحدث أن عاشوا، في بلد غربي - فيقول: السلام عليكم، فتقع تحيته على الحضور كمن ألقى قنبلة في المجلس، حتى لتهمس احداهن في اذن الأخرى بما يشبه الخوف: أهو منهم؟! وهكذا غدا السلام غريباً في أرضه، ومن يلقيه على قوم فكأنما خرج من الكهف بعد قرون طويلة من السبات، فلا القوم هم القوم، ولا العرب هم العرب، ولا اللسان هو اللسان، وحتى لا تكون غريباً بين قومك فلا بد من أن تنسى سلامك العربي الذي - في عرفهم - أكل الدهر عليه وشرب، وتقول: هاي، وباي، وبونجور، وتشاو. ان لغة "الآخر" ترجح دائماً في ميزاننا على لغتنا، وشخصية الآخر على شخصيتنا، وقيم الآخر على قيمنا، ثم اذا فضّل العالم علينا "الآخر" بعد ذلك، رفعنا عقيرتنا بالاحتجاج وقلنا: أين العدالة؟ لماذا تكيلون بمكيالين؟ من منا لم يسمع بتلك العقود التي تتم في الغرب لمصلحة بعض مؤسساتنا العربية، ويمارس فيها في شكل لا يصدق التمييز العنصري بين العربي، أو من كانت أصوله عربية، وغير العربي. طبعاً سيفهم أي قارئ ما أعنيه بسهولة: ان التمييز هنا سيصدر من العربي ضد العربي، وليس ضد الآخر. وما أكثر القصص عن خبراء أجانب استقدمهم هذا البلد العربي أو ذاك، لقاء مرتبات محددة، فإذا غضب الله على أحدهم وأحس البلد المضيف في لغته "لكنة" أعجمية، عفواً، أقصد عربية، وتبين أنه كان يوماً ما عربياً، أو رضع سبع رضعات مشبعة من أم عربية، فسيهبط مرتبه حالاً الى أقل من النصف، ولن يغفر له تفوقه أو عبقريته، ولا أن يكون عاش ولو خمسين عاماً في الغرب، ولن تنفعه بعد ذلك شفاعة زملائه المصعوقين لهذا التمييز المهين، وهم يرون بأم أعينهم "العجيبة الثامنة" من عجائب العالم: المكيال الذي يكيل به أصحابه، لا ليرفعوا من شأنهم أمام أعين الناس، ولديهم، لو شاؤوا، ما يرتفعون به، بل ليهبطوا بهذا الشأن، ولا لينفوا عن أنفسهم تهمة الغباء، وقد كانوا وما زالوا من أذكى الناس، بل ليثبتوا هذه التهمة، ولا ليمحوا من صحيفة سوابقهم الحكم الصادر بحقهم بالتأخر والجهل، وهم الذين حكموا العالم يوماً فأعطته حضارتهم ما لم تعطه أي حضارة أخرى. بل ليؤكدوا هذا الحكم ويقوموا بتنفيذه على مرأى من العالم. ثم بعد ذلك، إذا ذكرهم العالم بسوء احتجوا وبكوا قائلين: انكم تكيلون بمكيالين! كم من مشروع علمي أو اقتصادي أو اجتماعي أو تربوي قام به عرب قدّر لهم أن يفروا بعقولهم الى الغرب، وأرادوا أن يستثمروا هذه العقول هناك بعيداً من الاحباطات اليومية التي يواجهونها في بلادهم! وكان الغرب فخوراً بما قدمه هؤلاء "الغرباء" من العرب، له وللعالم، من مؤسسات ومشاريع وانجازات رائدة، ولكن من وقف صامتاً كأن الأمر لا يعنيه، ولم يحاول أن يقدم أي مساعدة لهؤلاء، بل ربما حاربهم وقاطعهم واتهمهم، هم قومهم العرب! اللهم إلا أن يستمتعوا متلذذين بترديد أسمائهم في كل فرصة تتيح لهم أن يرفعوا رؤوسهم أمام الآخرين ويقولوا باستعلاء: هذا العالم أصله عربي، وذلك المفكر عربي الأم، أو عربي الأب. كم أخفقت مشاريع عربية كبرى في الغرب، وولدت عبقريات عربية، لأن العرب أبوا إلا أن يحاربوها لمجرد أن اشتمّوا منها رائحة عروبة، أو ظهر من تحت طيات ثيابها ملمح عربي أو اسم لعربي. ومع ذلك لم تتردد هذه العبقريات في تقديم كل ما تستطيع من عون لأوطانها الأصلية، ولأبناء جلدتها الذين ظلت تشعر بحبها وانتمائها اليهم، ولكنه، وللأسف، يظل على الغالب حباً واخلاصاً من طرف واحد. فالطرف الآخر، الوطن، أعلن الحرب بلا هوادة ضد ولده وابن أرضه. ثم بعد كل هذا نجأر في الغرب صارخين: انكم تكيلون بمكيالين! تُرى هل نحن أجدر بأن نعطي الغرب دروساً في "الكيل بمكيالين" لم يعرفها من قبل؟ يقولون ان وراء كل عظيم امرأة، والخبرة علمتنا اليوم ان وراء كل نجاح لعربي في الغرب اخفاقاً في الشرق. فلولا الضغوط الفكرية التي حاصرته في بلده العربي لما حلّق هذا السنونو ليغرد أغرودته الحضارية بعيداً هناك. ولولا الاهمال الذي لقيه في وطنه، والاستهانة بملكاته الفكرية والعقلية، لما شد الرحال الى حيث يلقى من يرعاه ويحترم رصيده من العلم والذكاء والاكتشاف. ولولا الاخفاق السياسي في بلده، ونفوره منه، بسبب ذلك، الى حيث يجد الرخاء السياسي والاجتماعي والفكري، لما حقق في البلد المضيف ما حققه من انجازات وابداعات رائدة. ولولا الإخفاق الاقتصادي، والحواجز المالية، والبيروقراطية، والفساد الإداري والمالي في بلده، لما انطلق باحثاً عن وطن بديل يمارس فيه مهاراته بحرية وأمان، ويحقق خير ما يمكن أن يحققه انسان في هذا العالم من إسهامات ونجاح. أما الحصول على الجوائز العالمية فيندر أن يقع إذا لم يخرج أصحابها من البلاد العربية وينطلقوا هناك في اكتشاف أنفسهم وتحقيق ذواتهم، ومنح العالم نتاج اختراعاتهم وإبداعهم. هذه كلها حقائق، ومع إيماننا بوجود هذه الحقائق لم نتعلم الدرس بعد! لم نتعلم كيف نكتشف عبقرياتنا قبل أن يكتشفها الآخرون. ولم نتعلم، لو اكتشفناها، كيف نحتفظ بها ونحافظ عليها. ولم نتعلم، لو احتفظنا بها، كيف نرعاها ونحيطها بالدفء والسقاية والعناية حتى يشتد عودها وتؤتي أُكلها وتعود علينا بالنفع والرخاء. لم لا يتحقق نوع من الزواج بين أموالنا المكدسة في بنوك الغرب، أو في بنوك بلادنا، وقد اجتمع لأمتنا منها ما لم يجتمع لغيرها، وبين كنوزنا الفكرية من هذه الطيور؟ وهكذا نستثمر أموالنا في مشاريعهم، ونغذي بدمائها أفكارهم وخططهم العلمية والاقتصادية والتربوية والفكرية، ونستعيد بذلك بعض ما فقدناه، ونكفّر به عن بعض ما اقترفناه بحقهم وبحق أنفسنا من خسائر بشرية وحضارية لا أظن ان أمة من الأمم حققت الرقم الذي حققناه في حساب مثل هذه الخسائر. الزمن يتحرك ونحن لا نتحرك، والعالم يتغير ونحن نرفض أن نتغير. يد القدر تمسك بمفاتيح الحضارة باحثة عن الساكن الجديد لتقدمها له، ونحن ندير رؤوسنا عنها كأن الأمر لا يعنينا. لقد أصاب الهرم ساكنها القديم، فأعداد الشباب في الغرب تتراجع، وأعداد الشيوخ تتقدم. أما في الوطن العربي فالعملية عكسية. فنسبة الشباب في ازدياد مطرد يوماً بعد يوم، وكأن الله يهيئ هذه الأمة للمهمة المقبلة، ولكنها لا تبدو واثقة بنفسها الى هذا الحد، أو واعية هذا الأمر. تعلمنا من التاريخ أن التحدي هو الذي يولد الحضارة، فهل هناك أعظم من التحدي الذي تواجهه أمتنا اليوم؟ وفي الوقت نفسه هل هناك أمة أقدر منا اليوم، مالياً وبشرياً وعقلياً، على الاستجابة لهذا التحدي والاستجابة لنداء الحضارة الذي يدعونا ملء صوته؟ كل شيء حولنا يدعونا الى إعادة التفكير في أمر عقولنا البشرية المهاجرة، وقد توزعت شرقاً وغرباً. ومن السهل على من يعيش في الغرب أن يكتشف هذه العقول من حوله متناثرة هنا وهناك، فيدرك بمرارة أي خسارة كبيرة ومزمنة يتكبدها وطننا العربي ببقاء هذه الثروات العقلية الأسطورية بعيداً من أرضه، وانصباب مهاراتها وإبداعاتها في غير النهر الذي كان يفترض أن تنصب فيه. كيف تفوقت الصين واليابان وماليزيا واسرائيل خلال عقود قليلة من السنين؟ الاجابة ببساطة هي ان تفوقها صنع بأيدي العقول التي ولدت على أرضها ثم حافظت عليها، بل ربما استوردت هذه العقول، في بعض الحالات، من أنحاء العالم، فتفوقت علمياً واقتصادياً واعلامياً وعسكرياً. وأتقنت هذه العقول المستوردة لغة الغرب، وعرفت كيف تخاطبه فتقنعه حتى بباطلها، لو كانت تدافع عن باطل، في الوقت الذي أخفقنا نحن بإقناعه حتى بحقنا. فمن أقدر من فلذات أكبادنا في الغرب على فهم لغة الغرب ومعرفة فلسفته وطرائق تفكيره؟ ومن أقدر منهم، وقد اكتسبوا هناك ما اكتسبوه من خبرات علمية وتكنولوجية متفوقة، على صنع أمة قوية جديدة؟ ولكن، هل كان تفوق هذه الدول بتلك العقول وحدها؟ وأين نضع العقول إذا لم نجد الرؤوس؟ كيف لمن فقد هويته وشخصيته، واعتزازه بلغته، وثقته بنفسه، ووعيه بمسؤوليته الحضارية التاريخية أمام العالم، وقد حملها آباؤه يوماً عن جدارة، ان يجد على أرضه مكاناً لتلك العقول، وأن تجد هذه العقول ما يغريها بالعودة الى تلك الأرض لتبني أمة تستطيع أن تقف أمام التحديات التي تواجهها؟ بعض الأمم يحيي لغات ميتة، ونحن نميت لغتنا الحية. بعضها يصنع تاريخاً غير موجود، ونحن ندفن تاريخاً ترك بصماته على كل الأرض. بعضها يبني قوة عظمى وشعبه لا يتجاوز بضعة ملايين، ونحن، بمئات الملايين، لا نملك أدنى مقومات القوة. بعضها يستقبل العقول المهاجرة اليه كل يوم، ونحن نودع هذه العقول صباح مساء، حتى غدت الهجرة وتأشيرة الخروج حلماً لمعظم الشباب في البلدان العربية. نعم، ان في العالم العربي اليوم ارهاصات بالتحرك، ولكنها غير كافية. فهذه بعض دوله وقد بدأت تستقبل شرائح من العقول المهاجرة، بما يمكن أن نطلق عليه اسم الهجرة العكسية. سيقرأ كلماتي هذه كثيرون، ولكن من منهم سيقول بعد قراءته لها: لا شك في أنها تعنيني أنا؟ اعتدنا عندما نقرأ اقتراحاً جاداً أو دعوة للعمل والتحرك، أن نقول لأنفسنا: انها موجهة "لهم" وليس لي. اننا جميعاً معنيون بهذه الدعوة، من القاعدة الى قمة القيادة. وهي ليست دعوة توجهها كاتبة هذه السطور، فما هي الا مواطنة عربية في موقع متواضع من المسؤولية خارج الوطن، ساعدها، ربما، على أن ترى الصورة في شكل أوضح، وانما هي في الحق دعوة تعتمل في ضمير كل عربي يقلقه ما يجري حوله أشد القلق، ويريد أن يقدم شيئاً لأمته ووطنه. ولا شك في أن أصحاب القرار في وطننا العربي هم أقدر على التحرك أولاً باتجاه الأهداف التي دعت اليها هذه المقالة، بل هم أحوج الناس الى تلك العقول المهاجرة، لتكون الى جانبهم في الأوقات الصعبة، فيبنون على خبراتها خططهم وعلى خلاصة تجاربها قراراتهم، وقد اختارهم القدر لهذا الموقع الصعب من مواقع المسؤولية. انها أمانة ثقيلة في أعناقهم وهم أحرص على أن يفوا بهذه الأمانة، وأن يضعوا الخطط ويتخذوا القرارات لتذليل الصعاب وتمهيد الطريق أمام تحقيق الأهداف التي تعرض لها المقال والاجابة عن أهم الأسئلة المطروحة فيه: 1 - كيف نحافظ على شخصيتنا، ونتبصر هويتنا الثقافية، ونستلهم مكانتنا التاريخية، ونعي مسؤوليتنا اللغوية والحضارية تجاه أنفسنا وتجاه العالم؟ 2 - كيف نعي قيمتنا ونحترم أنفسنا أمام الآخرين، فلا نمارس في حق أنفسنا الكيل بمكيالين ظالمين، نيلاً من أبنائنا وإهداراً لكرامتنا؟ 3 - كيف نحافظ على ما تبقى من عقول مبدعة في بلادنا، فنمنحهم ما يمكن أن يمنحه لهم الآخرون، ليعطونا ما يمكن أن يعطوه للآخرين؟ 4 - كيف نستعيد الأسراب المهاجرة من علمائنا ومفكرينا، فنحتضنهم في أوطانهم بأمان، ونحيطهم بالرعاية والاحترام والتقدير، ليبنوا لنا من جديد قلاعنا المتآكلة وحصوننا المنهارة؟ 5 - كيف نحقق التفاعل الكيماوي المطلوب بين أموالنا المكدسة وعقولنا، الباقية منها والمهاجرة، للحصول على مادة سحرية نادرة اسمها: القوة والتفوق؟ * كاتبة سعودية.