يحاول بعض كتّاب الصحف العالمية في الغرب في هذا الأوان، بإيعاز من بعض المنظمات اليهودية المتشددة، لصق تهمة المعاداة للسامية بالعرب، لإجهاض مؤتمر الحوار بين الأديان التي دعت إليه المملكة العربية السعودية، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. يظن الكثير من المهتمين في قضايا المنطقة العربية، ومنهم مثل هؤلاء الكتّاب أن اليهود هم بنو إسرائيل، الذين يقطنون أرض فلسطين حالياً. وأن بني إسرائيل هؤلاء من سلالة النبي موسى عليه السلام، على رغم أن تعاليم موسى لم تنص على نظرية"أرض الميعاد". فقد ارتد بنو إسرائيل عن ديانة موسى عليه السلام بعد وفاته، وعادوا إلى عبادة الأصنام، وحين سبى الملك نبوخذ نصر رؤساء مملكة يهودا إلى بابل في القرن السادس قبل الميلاد، آب أغسطس الكاهن عزرا عزير من بابل وأعاد صياغة الديانة اليهودية في فلسطين. وعلى هذا فإن اليهود الذين ينتمون إلى يهودا، أحد أسباط النبي يعقوب عليه السلام، كانوا ينسبون أنفسهم إلى أصل عبراني سامي، نسبة إلى عابر بن سام بن نوح. إن اليهود الذين يقطنون أرض فلسطين الآن أصلهم إما من بلاد الخزر، التي دانت باليهودية عن طريق ملكهم بولان، فهم أحفاد اليهود الذين ظهروا في بداية القرن الحادي عشر في أوروبا من بقايا من فر من اجتياح الروس لبلاد الخزر، وعرفوا باسم طائفة الأشكناز، أو هم من أحفاد طائفة السفارديم الذين يرجعون في نسبهم إلى بقايا اليهود الذين فروا من محاكم التفتيش في إسبانيا. في الجزيرة العربية بدأ الوجود اليهودي عام 25 ق.م. كان أولهم في الاستيطان بقايا الحملة العسكرية التي بعث بها أكتافيوس، إمبراطور الرومان، للاستيلاء على اليمن، إذ ظلت الفرقة اليهودية المكونة من 500 رجل تعيش في نجران لقرون عدة، إلى أن اعتنق بعض ملوك حمير الديانة اليهودية، وصارت لهم مملكة في اليمن، منهم الملك ذو النواس، صاحب الأخدود، الذي جاء ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: قُتل أصحاب الأخدود. فالقرآن الكريم أرجع أسباب ما حدث للنصارى في نجران إلى تمسكهم بعقيدتهم القائمة على الإيمان بالله تعالى. روى الطبري أن النواس، آخر ملوك حمير، تهوّد وتهوّدت معه حمير، وتسمى يوسف، أي أنهم انتقلوا من الوثنية إلى اليهودية. أما عن تاريخ وجود اليهود في المدينةالمنورة فقد أشار ابن رسته إلى أنه يعود إلى أيام النبي موسى عليه السلام، عندما أرسل حملة عسكرية من بني إسرائيل إلى الحجاز لتأديب العماليق الذين طغوا في البلاد وعتوا عتواً كبيراً، فكان هذا أول سكن اليهود للحجاز بعد العماليق. أبو الفرج الأصفهاني له رواية تختلف عن رواية ابن رسته، فهو يعزو انتقال بني النضير وقريظة وبهدل"بنو هدل"من الشام إلى يثرب، إلى حادثة استيلاء الروم على بلاد الشام وتغلبهم على اليهود. وأكد كلام الأصفهاني كل من المؤرخين ولفنسون وموشيه جل بقولهما: إن اليهود دخلوا الحجاز واستوطنوها على حقبتين من حقب الغزو الروماني لفلسطين وذلك سنة 70م، واحتمالاً في سنة 135م. إلا أن جواد علي في كتابه"المفصل في تاريخ العرب"شكك في هذه الرواية، بسبب أن الإخباريين أخذوها من المصادر اليهودية. بعض المصادر قالت: إن دخول اليهود إلى الحجاز، كان سنة 587 ق.م وفي عهد الملك الآشوري البابلي نبوخذ نصر، الذي بطش باليهود، فهاجروا من فلسطين إلى شمال الحجاز، بسبب ما لقوه من أسر وقتل وتعذيب. ومصادر أخرى قالت: إن اليهود هاجروا من موطنهم الأصلي، فلسطين إلى جزيرة العرب، بسبب ما فعله بهم القيصر الروماني طيطوس، سنة 70م، وهدمه لمعبدهم، الهيكل. كذلك ما فعله بهم القيصر الروماني هدريان سنة 132م، من قتل وتعذيب، ففرّ عدد كبير منهم إلى الحجاز. لما قدم رسول الله"صلى الله عليه وسلم"المدينةالمنورة وادع يهودها وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم. وذكر ابن حجر في"فتح الباري"، نقلاً عن ابن إسحاق، أن النبي وادع اليهود لما قدم المدينة وامتنعوا عن اتباعه، فكتب بينهم كتاباً. وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع، والنضير، وقريظة. ومهما يكن من أمر فقد عاش اليهود مع المسلمين هناك جنباً إلى جنب سنوات طوال بعد دخول الإسلام إليها. وتعرّب يهود يثرب عندما احتكوا بسكان يثرب العرب، خصوصاً الأوس والخزرج"الذين عرفوا بالأنصار في ما بعد"وتطبعوا بالطابع العربي، وتزوجوا من العرب، ولبسوا الزي العربي، وظهر فيهم الشعراء بلسان عربي، مثل: السموأل بن عادياء، وكعب بن الأشرف. وتمتعوا بحرية دينية، لم يحصلوا عليها في أي بلد، فقد كانوا يؤدون شعائرهم الدينية، ويقرأون كتبهم القديمة باللغة العبرية. ولم يذكر أحد من المؤرخين اضطهاد المسلمين لهم في أي حال من الأحوال. كما تزوج الرسول منهم. ومن زوجاته من كانت على الديانة اليهودية، أم المؤمنين صفية بنت حيي. فنسبها في كلتا القبيلتين، بني النضير وبني قريظة، إذ إن أباها حيي بن أخطب من بني النضير، وأمها برة بنت سموأل من بني قريظة، وريحانة بنت زيد بن عمرو، رضي الله عنها، كانت من بني قريظة. إن محاولة بعض الكتّاب إفشال أي عملية سلام محتملة بين العرب وإسرائيل، وإجهاض فكرة أي حوار بين أصحاب الديانتين الإسلامية واليهودية عن طريق إبراز نظرية أن العرب قوم معادون للسامية، وأن السبب الرئيس لخلافهم مع الدولة العبرية هو كرههم للديانة اليهودية بحد ذاتها، هي محاولة فاشلة. وإن مصطلح"معاداة اليهود"هو ترجمة للعبارة الإنكليزية Anti-Semitism والكثير من المؤرخين من قال بأن العداء للسامية بدأ في الأندلس، إذ طرد اليهود والمسلمين معاً وفي الوقت نفسه، على رغم أن يهود المارانو كانوا قد تنصروا، ولكن أول من استخدم هذا المصطلح الصحافي الألماني، اليهودي الأصل، ولهلم مار سنة 1879. ولو أخذت العبارة بالمعنى الحرفي، فإنها تعني العداء للساميين، الذي يشكل العرب غالبيته العظمى. فالعرب واليهود أبناء عمومة، ويعتبرون وفق روايات الكتاب المقدس أمة سامية. وهناك دلائل عدة تؤكد أن يهود بني النضير وبني قريظة، أصلهم عربي، منها وجود أسماء عربية في سلسلة نسبهم، وتزوجوا وتصاهروا في العديد من القبائل العربية، كطيئ وتميم وكندة. وفي ما يتعلق بأصل قبيلتي بني النضير وقريظة، فإن اليعقوبي، وهو أحد أقدم المصادر التي ناقشت أصلهم، يذكر أن لهم أصولاً عربية، إذ إن بني النضير فخذ من جذام، قيل إنهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له النضير، فسموا به. المؤرخان نولدكه Noldeke وأوليري Oleary لا يستبعدان كون بني النضير وقريظة من طبقة الكهان في الأصل، هاجروا من فلسطين على إثر الحوادث التي وقعت فيها، فسكنوا في هذه الديار، أي الحجاز. المؤرخ مرجليوث Margoliouth وجد أيضًا ملامح العبرانية في أسماء قبيلة زعوراء، التي هي بطن من بطون الأوس من ولد جشم من بني عبدالأشهل، وأيد نظريته أيضاً جواد علي. أما المؤرخ موشيه جل فلا يستبعد وجود صلة بين القبائل البدوية المشهورة من جذام في أرض مدين، الذين كانوا يعرفون بأبناء ثيرون، وكذلك يهود الحجاز، وذلك لأوجه الشبه الكبيرة بينهم. وقدم الدكتور هاري أوسترير، مدير برنامج الجينات الوراثية البشرية في كلية الطب بجامعة نيويورك، بالاشتراك مع سبع جامعات عالمية، قبل سنوات عدة، بحثاً أثبت فيه أن لليهود والعرب جينات وراثية مشتركة.\ يُفسر الصهاينة معاداة اليهود بأنها تعود إلى كره الأغيار ? المقصود بهم العرب في هذه الأوان ? اليهود عبر العصور كظاهرة ميتافيزيقية متأصلة. وهذا التفسير فارغ من مضمونه كما أسلفت. فلا علاقة بين المسلمين واضطهاد اليهود وتعذيبهم، مادامت جذورهم مشتركة. والثابت تاريخياً أن عصور ازدهار الطوائف اليهودية كانت دائماً في ظل الحكم الإسلامي. ولدينا في هذا المقام شهادات كثيرة وردت في كتب التاريخ. ففي العصور الإسلامية الأولى يكفي أن نشير إلى الوثيقة التي نظم بها الرسول"صلى الله عليه وسلم"الحياة السياسية في دولة المدينةالمنورة وسميت"دستور المدينة"، والتي نصت على حقوق المسلمين وغير المسلمين معاً. * باحث في الشؤون الإسلامية.