العلاقة بين الراوي والمؤلف في أي نص أدبي تعد ركيزة أساسية، لا يمكن للعمل أن ينجح فنيّاً إذا ما شابه أي قصور أو لبس، ما معناه أنه كلما ارتفعت درجة وعي الكاتب حول مفهوم تلك العلاقة، كلما ارتفع مؤشر نجاح النص والعكس صحيح. أحد أهم المعوقات التي يمكن أن تسهم في سقوط النص المكتوب وقصوره الفنّي، هو خلط الكاتب بين كل من مفهومي الراوي والمؤلف، ذلك الخلط الذي يشوّه ذهن الكاتب، ويُدخله في متاهات إظهار ما يعتمل بداخله على لسان رواته، فيسرق منه جزءاًً من مميزات شخصياته، ويسكب عوضاً عنها جزءاً من المؤلف ذاته، فيصبح الراوي هو المؤلف نفسه، ويكون النص انعكاساً مشوشاً غير واضح الملامح لتصورات المؤلف الخاصة، وحشراً فظاً لما يعتمل في ذهنه، وبالتالي تضعف فنيّة النص وتُنزع عنه الميزات الخاصة بشخصيات العمل... وشيئاً فشيئاً يفقد النص إحدى أهم مقوماته ألا وهي شفافية واستقلالية الشخصيات المُقدمة في العمل الأدبي. يقول ماريو بارغاس يوسا في هذا الشأن في كتابه رسائل إلى روائي شاب:"الراوي هو أهم شخصيات الرواية، ومن الملائم تبديد سوء فهم كثير التواتر، يتمثل في مطابقة الراوي أي من يروي القصة، مع المؤلف، من يكتبها. هذا خطأ خطير، يرتكبه حتى كثير من الروائيين الذين يعتقدون، لأنهم قرروا رواية قصصهم بضمير المتكلم، وتعمدوا استخدام سيرتهم الذاتية كموضوع، بأنهم هم أنفسهم رواة قصصهم المتخيلة. إنهم مخطئون. فالراوي هو كائن مصنوع من كلمات، وليس من لحم وعظم، مثلما هم المؤلفون عادة. وهو يعيش فقط، في الرواية التي يرويها وبفضلها، وطالما هو يرويها فحدود التخيل هي حدود وجوده. أما المؤلف، في المقابل، فله حياة أكثر غنى وتنوعاً، تسبق وتلي كتابة الرواية التي لا يمكن لها أن تحيط بكل حياته ومعيشته، حتى وهو يكتبها". وبنظرة مبسطة نحو بعض ما نُشر أخيراً من أعمال روائية لكُتّاب وكاتبات محليين، نجد أن البعض سقط في فخ ذلك الخلط، فترى الكاتب يخرج من بين سطور روايته بمكنونه هو ذاته، بينما الكلمات تنتظر أن تُقال على لسان راوي القصة، فيخرس هذا الأخير خرساً يجعل القارئ يتعاطف معه، وينفر من حديث الكاتب وتدخله الفظ في ما لا شأن له فيه، فيفقد النص انسيابيته المرتجاة، وحياته النابضة، ليغدو مجرد أحرف ميتة لا حول لها ولا قوة، فلا تعود تقدر على بث المُتعة والتشويق في ذهن القارئ. علاقة الراوي والمؤلف تُشبه في بعض جوانبها علاقة الأم بطفلها، إذ المؤلف هو الأم والراوي هو الطفل، وبعض الأمهات يرفضن بسبب عاطفتهن استقلال صغارهن عنهن، فيبقى هناك ترقب الصغير، وما أن تلحظه يكبر ويتشكل بشخصيته الخاصة حتى تحاصر استقلاليته تلك، فنراها تُجيب بالنيابة عنه إذا ما وجّه له سؤال، ظانة أنها أفضل منه، ورُبما كانت كذلك، غير أن السائل سيكون أكثر قناعة بالإجابة إذا ما صدرت عن الصغير نفسه، لأنها ستمثله تماماً، وتعطي انطباعاً واقعياً عما يدور بداخله. أجمل التفاصيل في أي نص روائي هي تلك البسيطة، التي تنهمر بتلقائية وعفوية لتُلامس وجدان القارئ، وهي في الآن ذاته تلك التي يقوم بعض الكتاب بمحوها وإحلال وجهة نظرهم بدلاً منها، على اعتبار أن الأخيرة رُبما كانت أقوى أو أكثر نضجاً، بينما الواقع المصوّر في الروايات سيكون أكثر إقناعاً وجمالاً كلما احتوى على أمور بسيطة، تُشبه ما يمكن أن يصدر عن الأشخاص العاديين، فأبطال الروايات ينجحون أكثر كلما صوروا لنا الحياة العادية، التي قد نجد أنفسنا فيها كقراء، والعكس صحيح. هنالك كم من الجمال والإبداع في بعض ما يكتب محلياً، لكن لا تزال وصاية بعض الكُتّاب على نصوصهم وشخصياتهم واضحة جداً، بحيث تحجب عن القارئ جزءاً غير هيّن مما كان يجب أن يُقال... فهل يُعتق كُتّابنا وكاتباتنا رواتهم ويجعلونهم يتحدثون بطلاقة وعفوية، من دون توجيهات من الكاتب نفسه؟ عندما يحدث ذلك في إطار واع تماماً سيكون للرواية المحلية شأن آخر. * كاتبة سعودية