قمت أخيراً بزيارة لموسكو للمشاركة في ندوة دولية نظمتها مؤسستان ثقافيتان روسيتان حول موضوع"روسيا والعالم الإسلامي"، ولرئاسة الاجتماع التاسع للمجلس الأعلى للتربية والعلوم والثقافة للمسلمين خارج العالم الإسلامي التابع للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو. وجدت موسكو في زيارتي الثالثة لها، مدينة تضجّ بالحركة والعمران وتتهيأ لدخول مرحلة جديدة وصفتها في الكلمة التي ألقيتها في افتتاح الندوة، بأنها انطلاقة في ظل مناخ الانفتاح والتجديد وإعادة البناء. وقد لمست هذا الإصرار على طي صفحة الماضي والعمل من أجل الاتجاه نحو المستقبل بفكر جديد، في الحديث الذي جرى بيني وبين السيد سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الذي استقبلني وأقام حفل غداء تكريماً لي، وأعرب عن حرص بلاده على تعزيز علاقات التعاون مع دول العالم الإسلامي على أسس متينة. وكنت قد تلقيت في مستهل السنة الماضية، رسالة من السيد لافروف حملها إليّ السفير الروسي في الرباط السيد ألكساندر توكوفينين بشأن طلب انضمام جمهورية روسيا الاتحادية إلى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بصفة مراقب، بعد أن قبلت عضويتها بهذه الصفة في منظمة المؤتمر الإسلامي. وكان لقائي مع سيرجي ميرونوف رئيس الغرفة العليا في برلمان روسيا الاتحادية، مناسبة للاطلاع على التوجه الجديد الذي يقود روسيا نحو تمتين العلاقات مع العالم الإسلامي. وهو التوجّه نفسه الذي عبر عنه فينكروادوف نائب عمدة موسكو في حديثه معي خلال لقائي به في زيارتي للعاصمة الروسية. ولمست هذه الإرادة القوية للتجديد والانفتاح في الحديث الذي جرى بيني وبين الشيخ راوي عين الدين، رئيس مجلس المفتيين لروسيا أثناء اللقاء الذي جمعنا في موسكو. الواقع أن علاقة روسيا بالعالم الإسلامي لم تكن أفضل منها اليوم في أي عصر من العصور المتعاقبة. ففي الماضي البعيد، كانت الإمبراطورية القيصرية الروسية في مواجهة مستمرة مع الإمبراطورية العثمانية. وقد وصلت هذه المواجهة في بعض الفترات التاريخية، مرحلة الصراع المباشر في شكل حروب راح ضحيتها عدد كبير من الناس. ففي 24 نيسان أبريل 1877 أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية التي كانت امبراطورية يمتد نفوذها إلى أقطار عديدة من العالم الإسلامي، وبذلك بدأت الحرب العثمانية - الروسية الشهيرة، والتي استمرت من عام 1877 إلى 1878 وعرفت في التاريخ باسم حرب 93. وكانت هذه الحرب، وكما يقول الباحث المتخصص في الشؤون التركية الدكتور محمد حرب، نكبة من نكبات التاريخ العثماني، فقد رافق خسارة العثمانيين الأرض، مشكلة هجرة مليون مسلم عثماني من بلغاريا إلى استانبول. ومهد ذلك إلى ضعف الدولة العثمانية ودخولها في مسارات متشعبة عبر معاهدات مجحفة، الأمر الذي خدم مصلحة روسيا، وكان له انعكاسات على مجمل علاقات هذه الدولة مع العالم الإسلامي. وبعد قيام ثورة أكتوبر عام 1917 زاد توتر العلاقات بين روسيا وبين عدد من الشعوب الإسلامية المحيطة بها، وكان من نتيجة هذا التوتر سقوط عدد من الأقطار الإسلامية التي كانت تتمتع بالاستقلال، تحت هيمنة الدولة الجديدة التي انبثقت عن الثورة الروسية. وقد عانت هذه الشعوب الإسلامية معاناة شديدة من البطش والقمع في العهد اللينيني ثم العهد الستاليني، تماماً كما عانت الشعوب الأخرى التي كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفياتي. ولكن المسلمين قاسوا الأمرين في ظل النظام الشمولي الاستبدادي الذي قهر إرادة الإنسان، والذي لم يراع الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية للشعوب الإسلامية، ولغيرها من الشعوب التي نكبت بالاحتلال الروسي لها. لقد كان التدخل الروسي سواء في العهد القيصري أو قبله، في شؤون العالم الإسلامي، سبباً للصراع المفتعل الذي نشب بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية في إيران"إذ كانت السياسة الروسية ترمي إلى زرع الفتنة بين المسلمين من السنة والشيعة، لغرض إضعاف الكيان الإسلامي الواحد الذي كانت ترى فيه تحدياً لها. ولم يقتصر تدخل روسيا في شؤون العالم الإسلامي على السعي من أجل إحداث الفرقة بين المسلمين وتحريضهم على الاقتتال، بل امتد هذا التدخل إلى إغراء أطراف خارجية بشن العدوان على الدولة الإسلامية القوية. ومن ذلك أن الغزو المغولي للعالم الإسلامي، والذي وصل إلى احتلال بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وتدميرها وقتل الخليفة العباسي، كان من تدبير روسيا من جهة، والكنيسة البيزنطية في قسطنطينية من جهة ثانية، حسب ما يذهب إلى ذلك بعض المؤرخين المنصفين. هذه التأثيرات المتعاقبة التي شابت علاقات روسيا بالعالم الإسلامي في الماضي شوائب كثيرة، هي اليوم في ذاكرة التاريخ. ولكننا لكي نفهم الحاضر فهماً جيّداً ونعمل من أجل المستقبل بإرادة مشتركة، لابد لنا من مراجعة التاريخ. وسنجد في التاريخ المعاصر أن المسلمين في آسيا الوسطى كانوا يتطلعون في بداية العهد الجديد الذي عرفته روسيا ابتداء من أكتوبر عام 1917، إلى نوع من الانفراج. ولكن الذي حدث أن آلة القمع قد طالتهم، بل وصل الأمر في بداية العهد السوفياتي، إلى اقتلاع شعوب إسلامية من أراضيها وتهجيرها إلى مناطق أخرى. هذا إضافة إلى إبادة جماعية ارتكبت في حق العديد من المسلمين، كما ارتكبت في حق غيرهم من الشعوب التي اضطهدت في ظل ذلك العهد. ومن الإنصاف أن نقول هنا إن علاقات روسيا في عهد خروتشوف وبريجنيف بالعديد من دول العالم الإسلامي، كانت علاقة تعاون ومساندة، بغض النظر عن بعض التجاوزات والاختلالات، في ظل احتدام الحرب الباردة والمواجهة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وهو أمر يحسب لهذه الدولة الكبيرة ذات الثقل المؤثر في الساحة الدولية. تلك كانت صفحة من الماضي انطوت، وأحداثاً تاريخية انقضت. وقد تغيرت الأمور اليوم إلى ما هو أفضل، بالقياس إلى الماضي البعيد، بعد انتهاء النظام الشمولي، واسترجاع روسيا لعافيتها، وقيام النظام الديمقراطي المسالم الذي يحترم القوانين الدولية وينفتح على العالم، ويقيم العلاقات مع الدول على أساس تبادل المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية، لا على أساس إيديولوجي وحسابات الاكتساح لمناطق نفوذ مذهبي. ولعل من مظاهر هذا التحوّل الكبير الذي عرفته روسيا في هذه المرحلة في الاتجاه الصحيح على جميع الأصعدة، انضمامها إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب، ثم انضمامها إلى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو، بصفة مراقب أيضاً. وتلك مبادرة ذات دلالة حضارية موحية، من المبادرات الإيجابية المهمة التي اتخذتها جمهورية روسيا الاتحادية في هذا العهد الذي يجمع المراقبون على وصفه بالميلاد الجديد لروسيا العظمى، والذي قاد مسيرته الرئيس السابق فلاديمير بوتين بحنكة وحزم وبعد نظر، والذي تسير روسيا فيه نحو بناء علاقات متوازنة مع الدول العربية الإسلامية تخدم المصالح المشتركة، وتعمل من أجل تعزيز الأمن والسلم في العالم. إنَّ من شأن هذه الندوة التي شارك فيها نخبة من المفكرين والباحثين من العالم الإسلامي ومن روسيا وغيرها، وندوات أخرى تعقد بين الحين والآخر في موسكو ومدن روسية أخرى، أن تتطلع إلى المستقبل، وأن تساهم في دراسة القضايا المطروحة في الوقت الحالي على صعيد العلاقات بين روسا والعالم الإسلامي، لتوسيع مجالات التعاون فيها، وتوثيق عُراها، والانطلاق بها في مسارات الشراكة الاستراتيجية، لما في ذلك من مصلحة الجميع وأمن العالم وسلامه. ولا شك أن بناء العلاقات على أساس المصالح الاقتصادية المشتركة، هو الركن المتين للتعاون الثنائي والإقليمي والدولي في المجالات كافة، وهو المدخل لإقامة شراكة استراتيجية تكون قوّة دفع للعلاقات الدولية في اتجاه المستقبل الآمن والمزدهر. إنَّ ثمة مؤشرات كثيرة، بعضها بدت لي واضحة خلال زيارتي لموسكو، تدلّ على أن روسيا الاتحادية تتطلّع إلى تعاون متعدّد الأغراض والمجالات مع العالم الإسلامي، يخدم مصالحها الوطنية، كما يخدم مصالح الدول العربية الإسلامية المشتركة معها. وهذه السياسة الجديدة التي تنهجها روسيا في هذه المرحلة، تنبع من إدراك واعٍٍ لمتطلبات التجديد. وإعادة البناء من جهة، ومن تقدير عميق للخصوصيات الروحية والثقافية للشعوب المنضوية تحت جمهورية روسيا الاتحادية من جهة ثانية. وهذه على كلّ حال سياسة موضوعية مجدية. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو