قاتل الله الهموم! لمَ نحملُها ثم نلعنُها؟! نسعى لها سعي الشقي إلى شقائه، ونتعلق بها تعلق الملهوف بمقتله، أهي ضرورةُ الحياة وقدرُ البقاء؟ أم أنها فرط التعلق بالدنيا؟ الهمُّ قرين الضجر ونتيجةُ اليأس؟ أم ضربٌ من عجز القادرين على التمام كما قاله المتنبي؟ لا أدري سوى أنه أسوأ ما في الحياة، ومكدر قليل متعها"فهو يزيد ألم المريض، ويعمق عجز اليائس، ويقعد بصاحبه، وما أكثرهم، من أن يستأنف السعي وراء زيف الدنيا، لقد قرأتُ الهمَ في قصائد الشعراء، وروايات القصاص، وخواطر الأدباء، فما خرج أحدهم من همه ولا أنعتق من رقبته، فكلما حاول جهده في ذلك ازداد انغماساً فيه، كالمرابي الذي يسعى للخروج من رباه بربا جديد فما يزداد إلا ملاحقةً لهمه وتوغلاً فيه، فقاتل اللهُ الهمَّ، فهو للطموح قتّال، كما الربا يمحق المال. قال لي صاحبي: لا يحمل الهمَّ ذو مال، قلت نعم... وقال لا يحمل الهمَّ ذو صحة وعافية، فقلت نعم... قال لا يحمل الهمَّ ذو جاه، فقلت نعم... وهل بواحدة من هذه تنتهي متعُ الدنيا؟! وإن اجتمعت هذه لواحد فما أقلَّ أن تجتمع لغيره، فلا ينتهي الهمُّ به ما بقيت متعةٌ لم تنلها يده، أو تأملُ فيها نفسُه، فالهمُّ مطارده. لقد قرأت على نفسي ضرُوبَ هموم المهمومين، فلعلي رأيت ما لم يتهيأ لغيري أن يراه: رأيت من فقد بعض أجزاء جسده ولم يبق فيه سوى روحٌ تحملها أشلاء، فهو لا يتألم على ما فقده! بل يبكي همَّ ما بقي له، رأيت دمعة اليتيم الذي شاهد يتمه في مقتل أهله، ورأيت المسنَّ متكئاً على عتبة أنقاض بيته فهو لا يبكيه بل يبكي همَّ الوحدة التي بقيت له, رأيتُ الكثيرَ في عالمٍ الدمُ فيه كالماء لا أحدَ يعبأُ به... فقلت لنفسي لعل هذا العالم المزري شيءٌ من الاستثناء، يتجاوز حدود الهموم المشتركة بين الناس، ولعله قدر إلهيٌ لشعوب للابتلاء أو التمحيص، أو بما كسبت أيديهم ويعفو سبحانه عن كثير. فرحتُ أقرأ هموماً أخرى، فوجدتها في أكثرها نوعاً من التزود في طلب ضروب من المتع، وعالم الرفاه، ولكنها همومٌ، وهل يستأذن الهمُّ صاحبه ليخالج نفسه وينغص عيشه؟ فالهمُّ عالَمٌ روحاني يبدأ بصاحبه لتخيلِ أسمى درجات النعيم، أو القدرة على بلوغه فيسبح في بحور من الأماني لا توصله إلى الحبور، بل تقوده لشطآن الغموم والهموم! فما يتوقف حتى تجفَ شفتاهُ وتغلب حرارةُ جسده حلاوةَ آماله وطموحه، فيتوقف وقد ضاقت به أوسع أبواب الرزق، وصغرتْ في عينيه سعةُ الدنيا، فما يرى سوى الهمَّ يلفه الكدرُ والضيق، في حالٍ من التذمر والقنوط... فمن ذا لا يعيش الهمَّ؟ ولا يحملُه همهُ لضرب من ضروب الجنون، وإن كان هماً وقتياً ينقطعُ عنه بالزمن ويرتفع عنه من دون سبب. وهل من شيء جدير بأن يحملَ المرءُ بسببه الهمَّ؟ يساهرُ فيه ليله؟ ويحدث فيه نفسَه كالمجنون؟ وكثير من هؤلاء يعيش بطوع اختياره حالات المجانين! ولولا هذه الحالات المجنونة لما رأينا كثيراً من إبداعات المهمومين في أسمى لحظات همومهم أو قل جنونهم، ولكنه جنونٌ بسطَ رداءه لتجليات شاعر وإبداعات أديب، بل وأروع إنتاج لمبدع ومفكر استنارت به شعوب، ونهضت بسببه أمم... فأُمّةٌ لم تدمع لها عين، ولم تعتصر فيها نفس"لأمةٌ بعيدة ببرودة أبنائها عن مسابقة الزمن ومجاراة الأمم. فطوبى لمن طال همُّهُ لأمته، ولم يقصر بهمّهِ على ذاته وشأنه. فمن علتْ هِمتُه... طال همُّهُ. [email protected]