يعتقد كثيرون أن ثمة قضايا هي أولى بالاهتمام وحشد الجهود كقضيتي فلسطين واحتلال العراق من الحوار بين الأديان، إذ إنها مواضيع الساعة الآن، والحديث عما سواها يدخل في باب الترف. إلا أن عضو مجلس الشورى السعودي المشرف على اللجنة العالمية للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم الدكتور حاتم العوني الشريف يرى خلاف ذلك، إذ جرب جدوى الحوار مع الغرب عبر تنظيم اللقاءات والندوات التعريفية بنبي الرحمة في كثير من دول العالم، وقال إنها آتت ثمارها، خصوصاً بعد احداث ال11 من إيلول سبتمبر حينما شوهت صورة المسلمين لدى الغرب، وبعد الرسوم"الكاريكاتورية"المسيئة للرسول الكريم. يقول الشريف:"عقدنا أربعة مؤتمرات كبرى في كندا وبريطانيا ولبنان والبحرين من أجل الحوار، وحققنا نتائج أبعد من إقناع الغرب بالصورة الصحيحة، إذ اعتنق الكثير منهم الدين الإسلامي فور جلوسنا معهم". وفي حال الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها الصحف الدنماركية، يعلق الشريف بقوله:"التقينا مثقفين ومفكرين من الدنمارك ومسؤولين في وزارة الخارجية، بل إن بعض النخب الدنماركية أنشأت موقعاً على"الإنترنت"سمته"دنمارك آخر"، أرادوا من خلاله ان يعتذروا عما أصدرته صحفهم من إساءة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن كل ذلك لا يعبر عن وجهة نظرهم". تلك الإشارات ذكرها الدكتور حاتم العوني الشريف ليؤكد أن معاني كثيرة لا يمكن أن تصل للآخر من دون الحوار"الأفكار الخاطئة لا تتغير بالتخويف، ما يسهم في تغييرها هو الإقناع، فقضايانا المصيرية كفلسطينوالعراق لا يدعم عدالتها وشرعيتها سوى الحوار". ولكن مسائل ابعد من الحوار وفق شواهد تاريخية تؤكد تعايش المسلمين في عصور صدر الإسلام والخلافة الأموية والعباسية مع ديانات أخرى، وهو ما يتجاوز مرحلة الحوار ليصل الى مرحلة التعايش والتفاهم على ركائز العيش المشترك. الرافضون يطمسون التاريخ إلا أن عدداً من المفكرين والمهتمين بالشأن الإسلامي المتفائلين بفكرة الحوار فند دعاوى المناوئين لجهود العلماء المسلمين في تقريب وجهات النظر بين طوائف المسلمين واتباع الديانات الأخرى، وهنا يعتبر الباحث الإسلامي زيد الفضيل أن هذه الدعوات منسجمة مع طبيعة الفكر الذي تنطلق منه، اذ يرون في الآخر الخروج والكفر المطلق، وان مقاطعتهم هي من اساسيات الديانة والتعبد. ولكن هل يتفق ذلك مع خصوصية الإسلام؟ يجيب الفضيل:"لا يتفق إطلاقاً، فلو رجعنا للسيرة النبوية، لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما وصل إلى المدينة كانت أول دعوة قام بها هي التحاور مع اليهود، وإيجاد قواسم مشتركة تمكّنهم من التعايش مع المسلمين وفق ضوابط الإنسانية المتفق عليها، ولم يختلف معهم الرسول الكريم إلا بعد ان ثبتت إليه خيانتهم وتآمرهم على الإسلام والمسلمين". ويزيد الفضيل:"كان النبي صلى الله عليه وسلم ليناً في تعامله مع نصارى نجران بمجرد انتهاء مسألة المباهلة ورفضهم لها، اذا استجاب لرغبتهم في ان يقيموا صلواتهم في المدينة، ولم يمانع في ذلك كما ثبت في المصادر التاريخية". ويرد الفضيل على من يعتبر تلك الشواهد لا تتوافق مع عصرنا، لأن المسلمين - آنذاك - كانوا في عزة قوتهم، وأن الحوار مع الآخر الآن يؤكد استجداء الضعيف للقوي،"ثوابتنا الدينية ومكارم الأخلاق والتسامح وقواعد الإسلام سواء أكنا في مرحلة قوة ام ضعف، كما أن رؤيتنا للآخر لا تنطلق وفق مزاجية، وانما تستند على قواعد شرعية ثابتة تستند لما جاء في القرآن والسنة". ويطالب الفضيل بان تتم التفرقة في التعامل مع الآخر في أمور أصلها قضايا سياسية، وأمور تنطلق من منظور ديني، مستشهداً بالآية الكريمة:"ولتجدن أقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا إنا نصارى". مكاسب تتجاوز دعوة غير المسلمين ويعود الشريف إلى معارضة من إذا اعترفوا بأهمية الحوار حصروه في"الدعوة إلى الله"ويعترض على ذلك بتوضيح أن مقاصد الحوار قد تتجاوز تلك الغاية إلى أدنى منها أو أكبر، مثل: - أن نَفْهَمَ المخالفين كفارًا كانوا أو غيرَ كُفَّارٍ فهمًا عميقًا، وأن نعرف حججهم، ومنطلقاتهم الفكرية، ورواسبهم العقدية، وتصوراتهم، وأساليب إقناعهم. فما نجح الغرب في غزونا الثقافي إلا بعد مئات السنين من الدراسات الاستشراقية، التي عرف معها كيف يؤثر فينا. أن يفهمنا الآخرون، لكي يحترموا حضارتنا وقيمنا، وإن لم يؤمنوا بديننا. فإننا إذا ما استطعنا بالحوار أن نصحّح تصوراتِهم الفاسدة عنا، خفّتْ عداوتهم لنا، ووسّعنا بيننا دائرة المشتركات الحقيقية التي لا تُلغي الفروقَ الحقيقية، مما سينفعنا منافعَ عديدة، حتى في الدعوة إلى الله تعالى. - الوصول إلى نظامٍ أو قانونٍ يمنع الاعتداء على المقدسات، كما أمر الله تعالى بقوله:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم"الأنعام: 801. - الوصول إلى صُلْحٍ يحفظ الدِّينَ والأعراض والدماء والأموال. -معرفة الجوانب الإيجابية التي لا تخلو منها حضارةٌ إنسانية باختلاف عقائدها وأديانها، كما قال صلى الله عليه وسلم، مشيرًا إلى كُفَّار العرب:"إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق". فلا تنحصر مقاصد الحوار المشروعة في الدعوة إلى تغيير المعتقدات والأديان، كما لا يجوز أن يُؤَدِّي الحوار إلى تجريمنا، أو منعنا من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. ولذلك أعود قائلاً مستغرباً: فلا أدري لماذا يتوجسُ بعضُنَا خِيفةً من الحوارِ، بل من الدعوة إلى الحوار؟ ولماذا يَحْصُر آخرون الحوارَ المشروعَ في حوار الدعوةِ إلى تغيير المعتقدات؟ وكان قبل ذلك تساءل:"لماذا يتوجسُ بعضنا خيفةً من الحوار، بل من الدعوة إلى الحوار؟ سواء أكان الحوار مع المخالفين لنا في أصل الدين من الكفار، أم مع المخالفين لنا في بعض"المعتقدات"من المسلمين: هل هو رفض مبدأ الحوار الذي لا يكون إلا من ضعيف الحجة؟ وهذا ما لا يجوز أن يقع من مسلمٍ عَلِمَ أنّ الله تعالى قد حباه بالدين الحق الذي ليس سواه إلا الباطل؟ أم لأننا أصبحنا نشك في كل دعوة حق، خشيةَ أن تكون حقًّا أُرِيدَ به باطل"؟ ثم يعلق بأنه لذلك وجدت ظاهرة إساءة الظن في خطاب هذا الفريق الرافض للحوار، فيعللون رفضهم له بأسباب أسوؤها أن"الدعاة إلى الحوار سيتخذونه سُلَّماً للتنازل عن حقائق الدين، وإلى تمييع الولاء والبراء.. وغير ذلك من التهم! وهذا التعميم الجائر منهم في الشكّ، لا يقع إلا من مسلوبِ الإرادة، أسيرٍ للغلو في فكرة المؤامرة, ولذلك فلا تكاد تجد عند هذا الصنف من الناس إلا النواح والعويل على الحمى المستباح والحق المغصوب, أما إنتاج الإصلاح وبرامج التصحيح فهم عنها بمعزل"إلا من الدعوة إلى منهجهم نفسه, لإنتاج نُسَخٍ أخرى لأمثالهم: من مسلوبي الإرادة، وأُسَراء التوجّس الْمُقَيَّدين بسوء الظن! أم لأن الذين نغلو في تعظيمهم عاجزون عن الحوار، وسيتولّى مَهمّة الحوار حينها الذين كنا نريد أن نَسْلُبَهم كُلَّ فضيلة، وستنكشف بذلك هالةُ التقديس عمن نقدس، وسيظهر فضلٌ ما.. بوجهٍ ما.. في وقتٍ ما.. لمن أردناهم عَرِيِّين عن كل فضل؟! ولكنّ هذا داءٌ لا يصح أن نداويه بداء رفض الحوار!!بل دواؤه أن نترك الغلو في ذوي الفضل على حسابِ آخرين منهم، وأنْ نعلمَ أنّ كُلاً ميسّرٌ لما خُلق له". خطاب سوء الظن كما أشار إلى أن"بعض هؤلاء الرافضين للحوار يرفضونه من منطلق: أن الحوار المشروع ينحصر في الحوار بغرض الدعوة إلى الله تعالى، ولذلك تراهم يعدّون كلّ حوار بغير غرض الدعوة تضييعاً لحقائق الدين، وإذابةً لعقيدة الولاء والبراء. وينسى هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حاورَ كفارَ مكة في صلح الحديبية، لا لدعوتهم إلى الإسلام، بل حاورهم على ما فيه إرجاءُ دعوتهم إلى عشر سنوات، يتركهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك! وهذا حُكْمٌ مُحْكَمٌ غير منسوخ"ولذلك احتجّ مَنِ احتجّ من العلماء بتحديد وقت الصلح بين المسلمين والكفار ب10 سنوات. بل لقد تضمّنت شروط صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة : أنّ مَنْ أسلم من أهل مكة، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلمين إعادته إلى المشركين في مكة، وأنّ من ارتدّ عن الإسلام إلى الكفر لا يعيده المشركون إلى المسلمين. وفي هذا بيان واضح على أن الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة في ذلك الصلح لم يكن بغرض دعوتهم للإسلام حينها، وإلا كيف يُعادُ المسلمُ منهم إليهم، ولا يعيدونَ المرتدَّ من المسلمين إليهم؟! بل لَمَّا أن رفض مفاوضُ قريشٍ أن يكتبَ في وثيقة الصلح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصْفَه بأنه رَسُولُ اللَّهِ وافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع ما تضمّنه هذا الإصرارُ والعنادُ من عدم الاعتراف بالمسلمين الذين ما فارقوا المشركين إلا لإيمانهم بالرسالة". وإذا كان الاختلاف حول آليات الحوار وأهدافه طبيعياً، فإن"الحوار"حول الحوار هو المرحلة التي جاءت مشفوعة بمؤتمرات الحوار، التي عسى أن تؤتي أكلها في عالم يضج بكل العنف المضاد للحوار.