في التحقيق الصحافي الجريء الذي نشرته هذه الصحيفة قبل أسبوعين عن"المشهد الثقافي المحلي"المتأرجح بين ذهنية الوصاية وحراسة القيم الميتة، وفي إطار إجابتي القصيرة عن هذه القضية المهمة قلت إن عدم القراءة الصحيحة والواعية للتوجهات الجديدة لمشروع الدولة الثقافي، واستيعاب المناخات المشجعة التي تكتنف المشهد الثقافي المحلي والعالمي، في ظل اقتحامات العولمة الشاملة وتداعياتها الثقافية بمؤثراتها الإلكترونية والفضائية بعضُ، من جملة الأسباب الراهنة التي تجعل التفاعلات الثقافية للمجتمع وللمثقف على تعددية أطيافه، داخل المؤسسة الثقافية وخارجها، تتأرجح بين قطبي ذهنية الوصاية والإقصاء الثقافي والتشدد، وذهنية حراسة القيم الميتة والتصورات والمواقف المتخشبة، إزاء كل صور الإبداع والممارسات الثقافية الجديدة. وفي مسار تشخيصنا التحليلي يتبين لنا أن ذهنية الوصاية/ الذهنية الأبوية بامتياز متأصلة في نسيج تفكير مجتمعنا في نسقه كله وفي تفاعله مع الوقائع والمتغيرات الجديدة، التي تحوم حوله وتدق أبوابه بقوة، أي أن هذه الذهنية مازالت تعمل كنسق سلوكي منكشف تارةً ومضمرٍ تارةً أخرى، ومازال الحراك الثقافي البطيء عاجزاً حتى الآن عن كسر طوقه والخروج من حصاراته وأفقه المحدود، كما أن حراسة القيم الميتة مازالت حتى الآن يقظة وتعمل داخل المؤسسة الثقافية ذاتها، ومن خلال بعض شخصياتها كما هي في خارجها وفي محيطها الاجتماعي. بإمكاني القول إن دور المثقف في مجتمعنا مشفوعُ بمسؤولياته في تطوير وعيه ? وعي المجتمع ? والارتقاء به وبأفراده إلى آفاقٍ متقدمة منسجمة مع إيقاع العصر وحراكه، مازال دوراً متردداً خائفاً وعاجزاً حتى اللحظة الراهنة في إنجاز هذه النقلة الحضارية المطلوبة، ومصداقاً لما أقوله هنا، - في يومٍ لاحق على هذا التحقيق - أحزنني قبل أن يثير غيظي حديث صحافي آخر لأحد مثقفينا ممن يعملون على رأس مؤسسة أدبية ناشئة، مردداً فيه قولاً مكروراً وخائفاً ومبرراً إيقاف عرض فيلم لاحتوائه على موسيقى تصويرية! ولأن المجتمع يرفض الموسيقى لاحظ تعميمه، فعلى هذه المؤسسة في فعالياتها ألا تبدأ بما يختلف حوله المجتمع! بل بما يستقطب ولاينفر!! ويزيد في القول المكرور والخائف في صدد تبريره لمنع مناقشة رواية صادرة حديثاً، بأن هذه الرواية"هي من الأساس ممنوعة ولم تحز فسحاً للنشر من وزارة الثقافة والإعلام فما دامت ممنوعة فلماذا نعرضها للنقاش"!! وكأن عرضها للنقاش ممنوع أيضاً فناقل الكفر كافر، وعلى ضوء هذا المفهوم علينا أيضاً وفي الحالة هذه ألا نناقش روايات القصيبي وتركي الحمد، لأنها لم تفسح من وزارة الثقافة والإعلام ولا تباع في السوق!! أي منطقٍ هذا الذي يقترفه مثقفنا في حق نفسه، وحق مسؤوليته في تطوير الوعي السائد؟! إذا كان مثقفنا"أديباً أو مفكراً أو فناناً"لا يخرج في تفكيره عن المتداول الساكن، والمألوف من الآراء وبعض التصورات والمفاهيم المتحجرة في مجتمعنا، ولا يقدم في ممارساته الثقافية وفي رؤيته على نوعٍ من الخلخلة الثقافية، أو النقلة النوعية الجسورة فما قيمة دوره إذاً؟ هل عليه أن يكون متماهياً ومنسجماً ومتصالحاً، حتى يرضى عنه المجتمع؟ هل من واجب وجود المثقف أن ينزل بأفكاره ورؤيته إلى مجتمعه ووعيه السائد، فيتبنى هذا الوعي ويمتثل له ويتماثل به؟ أم من واجب وجود المثقف أن يرتقي بوعي مجتمعه الساكن إلى مستوى تفكيره هو، ونظرته المتقدمة والمستقلة ذاتياً فيحقق نقلة نوعية في التغيير المرتجى في البنية الذهنية العامة، كي تتلاءم مع واقعها الحضاري المتعولم وتندرج في سياقه التاريخي؟ هناك توجهات ثقافية جديدة ملموسة لوزارة الثقافة والإعلام متضمنة ومتمثلة في قبول التعددية الثقافية والانفتاح على الآخر والتسامح الثقافي، في إطار مشروع الدولة الثقافي وتحت ظل الحوار الوطني مع الداخل والخارج في آن وربما مؤتمر حوار الأديان الذي أقيم أخيراً في مكةالمكرمة يأتي ضمن سياسة الحوار الشامل المتبناة من الدولة، وهو ما يعتبر فرصة سانحة وجيدة للمثقفين على مختلف تياراتهم ومدارسهم الفكرية، التقاط هذه الإشارات التاريخية بذكاءٍ اجتماعي رفيع لتحقيق نقلة التغيير الملحة وفي زمن قياسي، من أجل تبديد الكثير من التصورات الجامدة والتفاعلات المغلوطة، إزاء مسائل التطوير والتحديث الثقافي للمجتمع والخروج به من دوائر التقليد المغلقة، وحصاراتها السائدة إلى قلب العصر... إلى قلب تداولاته الثقافية الجديدة ناهيك عن تحدياته الحضارية وإقتحاماته المعرفية المتوالية. كل المشاريع الثقافية النهضوية السابقة انبثقت في البدء من مثقفين تنويريين، تخطت تصوراتهم ورؤاهم الجديدة لتغيير مفاهيم مجتمعاتهم المتداولة والجامدة، إلا أنه للأسف انتهت هذه المشاريع ولم تحقق أياً من أهدافها وغاياتها الكبرى على أرض الواقع، عندما تراجعت تصورات المثقفين أدباء ومفكرين وارتمت في أحضان السائد والمتداول والمألوف خوفاً أو طمعاً في الخلاص وسلامة الذات، أو نتيجةً لضغوطات الواقع وآليات القمع والمصادرة التي تؤبده، وشواهد التاريخ الثقافي العربي في مصر والشام في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن الماضي دالة على ما نرمي إليه، وهو انكسار النهوض الحضاري العربي وتراجع رايات التنوير. وحقيقة بدهية لا يمكن إنكارها تاريخياً وهي أن المثقف الحق معول عليه في أي مجتمع، أن يقف موقفاً نقدياً وأن يبلور خطابه النقدي المستقل كأداة فاحصة وناقدة للأنظمة الثقافية والمفاهيم الاجتماعية وعلاقاتها، ما بقي منها في التأثير أو التي تجاوزها العصر، حتى يسهم في سد الهوة بين التطوير والتحديث المادي الحادث في المجتمع وبين أبنيته الفكرية وانظمته الثقافية، ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربية، إذ نجد هناك تطوراً مادياً حداثياً ينفتح ويتفاعل مع كل مفاعيل التحديث التقني العالمي، وفي الوقت ذاته لا نشهد انفتاحاً وتفاعلاً فكرياً وذهنياً على مستوى النظرية والممارسة، مع مفاعيل هذا التحديث الحضاري الكوني في مستوياته الفكرية والمعرفية، بل نلمس تأخراً ثقافياً وجموداً ذهنياً لا يتواءم مع مستوى هذا التطور المادي عمراني واقتصادي المنجز، وهذا يرجع في حقيقة الأمر الى تراجع دور المثقف وتشوش هذا الدور واستمرار خضوعه للولاءات والمصالح الطائفية والعائلية، التي تتحدد في اطيافٍ وصورٍ من المصادرات والإقصاءات، وعجز أنظمته الثقافية عن تضييق هذه الفجوة المتسعة وعدم استيعاب الضرورات التاريخية في اكتمال التحديث والتغيير المجتمعي على كل مستوياته، هذا الاستسلام أو الخضوع أو التماثل مع مفاهيم وتصورات المجتمع الساكنة، يحول في الحقيقة دون تشكيل خطاب نقدي جديد، مستقل وفاعل. ويمكننا القول بكل ثقة إننا هنا في بلدنا نمر بنقلة حضارية، تنجز حثيثاً في تطوير مادي ملموس لكل البنى التحتية والإنتاجية الأساسية، فالطبيعي أن تواكبها نقلة ثقافية على مستوى البنى والأنظمة الثقافية، كي تضيق على المدى القريب من حجم الفجوة بينهما، على أمل إحداث هذه اللحمة بتمامها على مديات أبعد. من هنا لا بد من أن يأتي الدور المعرفي والأخلاقي للمثقف من أجل ترقية وعي المجتمع، والكشف عن الحقيقة في بعض ابعادها ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة واطيافها... حقيقة التطور المادي الحاصل وحقيقة العصر الذي نعيش فيه، والمبادرة في تشكيل الوعي النقدي للهوية حينما تكون متناقضة مع الهويات الثقافية الأخرى، من دون الانخراط في تكريس مفاهيم مضللة تسجن الهوية في دوائر مغلقة: فئوية او عائلية او اقليمية، أي الخروج من الأفق الضيق لوعي الهوية والخصوصية الثقافية، إلى الأفق المفتوح للثقافة الكونية ومفهومها الإنساني، وهو هنا ? المثقف ? لا مناص سيمارس دوراً مزدوجاً، وهو النقل المعكوس للحقيقة... حقيقة المجتمع ومستوى تطوره الثقافي الى صاحب القرار السياسي والتنموي، عبر قنوات عدة، من ابرزها ابداعه واجتهاداته وممارساته اليومية. وينبغي التصدي بأفق مفتوح وبعقلانية رفيعة لمن يتشدق من المثقفين في القول المكرور والمشروخ، بأن دور المثقف يتحدد بشكل اساسي في الحفاظ على هوية المجتمع وثقافة"ثوابته"وخصوصيته، لكنني اتساءل عن أية هوية نتحدث؟ وعن أية خصوصية ثقافية ندافع؟ اذا كان المجتمع الواحد ينقسم الى هويات والى خصوصيات ثقافية. وهل ندافع عن الهوية التي لا تتفاعل مع الهويات الأخرى؟ وهل الهوية ثابتة ام متغيرة؟ وهل ندافع عن الخصوصية الثقافية التي تتناقض مع ايقاع العصر ومستوى تطور اللحظة الحضارية الكونية الحية؟ في مسألة تمثل الهوية اواللاتمثل، نحن هنا ازاء هروبين اثنين من الواقع: الهروب من الواقع الى الوراء ممثلاً في التقليديين وتصوراتهم عن الهوية والخصوصية، وهروب من الواقع الى امام ممثلاً في متطرفي التغريب ونفي الهوية، والارتماء في الهويات الأخرى، كلا الهروبين لا يخدم الحقيقة الثقافية، لا حقيقة المجتمع ومستوى ايقاع حراكه ولا حقيقة الواقع الموضوعي ومستوى تراجعه وتخلفه. وكلا الهروبان يشكل عبئاً ضاغطاً على تقدم المجتمع ذهنياً وحضارياً. وكما يقول شاعرنا العربي القديم:"ليس الفتى من يقول كان أبي/ ان الفتى من يقول هاأنذا". بمعنى ما الإضافة الحضارية الثقافية التقنية التي قدمناها راهناً للحضارة البشرية؟ ما التمايز الثقافي والهوياتي الذي نمتاز به على الهويات الثقافية الفاعلة والرافدة للحاضر بمعطيات المستقبل؟ أستعيد ما قاله أحد المفكرين التقدميين العرب:"أن أخطر ما تتعرض له هويتنا هو جمودها واستغراقها في استنساخ رؤية ماضوية، وفرضها على حاضرنا فرضاً بليداً". وانا أقول:"ان أسوأ دور يمكن أن يلعبه مثقفنا حاضراً هو أن يتماثل مع مجتمعه في بناه الفكرية وانظمته الثقافية، متخلياً عن استقلاليته وروح الإبداع والاجتهاد في فحص هذه البنى وتغيير هذه الأنظمة الميتة، أو أن يهدف من انخراطه في العملية الثقافية من أجل مكاسب مادية، او منافع شخصية آنية وجاهية / مظهرية، مختزلاً بذلك دور المثقف في دائرة ضيقة، منسحباً به من العام الى الخاص.