من المجازفة - مع مرور عقود من الزمن على ولادتها - القول إن تناول الحداثة قد أشبع بحثًا ودراسة، وإن إعادة النظر في أطرها المعرفية والفلسفية والنقدية يدخل في دائرة التعريف بالمعرف، قد تمتلك هذه الرؤية وجهًا من أوجه الحق إذا ما سلمنا جدلاً بأن بنية الحداثة وأنساقها تندرج في دائرة الزمن ومقاييسه، لا دائرة المعرفة وقيمها، وبعيدًا عن ما قيل في الحداثة ومحاولة تحديد ماهيتها أو دلالتها اللغوية والاصطلاحية، فإن الكرة من جديد من أجل تقريب المفهوم وتبيان إشكاليته لدى المثقف العربي ما يزال سيد الموقف، فهو في الظاهر - المثقف العربي - يؤمن بالحداثة حينًا ويكفر بها أحايين أخرى، يقدسها ويلعنها في الوقت ذاته، يسير على أثرها ولا يقر برؤيتها، الرؤية القيمة لا رؤية اللحظة الزمنية، رؤية المعرفة بالشيء لا التعريف به، رؤية السير مع الالتفات لا الالتفات من دون سير، أو السير من دون التفات، هذه الرؤية / القيمة هي جوهر الحداثة، ولكن المثقف العربي - فيما يظهر - لا يتفاعل مع هذه القيمة بفعل متزن يصرف عنه مبدأ التشظي واللاوعي. إن الحداثة في أبسط تعريف لها أسلوب في التفكير، أسلوب في التعايش مع الآخر وقبوله، كيفية في التعاطي مع إفرازات العصر دون معرفة هويتها أو مصدر انبعاثها، هي كما يرى المفكر العربي محمد عابد الجابري الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه المعاصرة، أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي (1) ومن ثم فهي قيمة لا تقبل الوصف الفردي، ولا تُدمغ بطابع معين أو هوية محددة، أي: أنها انجاز غير قابل للتأطير، والقول بأنها منجز غربي بحت وهمٌ يعشش في ذهنية كثير من المثقفين العرب، إنها قيمة إنسانية جذورها في كل الحضارات، وعندما نقف مليًا على رصيدنا التراثي سنجد مواقف متعددة تجسد روح الحداثة في أوج صورها، ولنتأمل قليلاً في موقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع معاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن ونمط أسلوبه صلّى الله عليه وسلّم في حواره مع معاذ واحترامه دور العقل في التعامل مع معطيات الحياة «اجتهد رأيي»، هذا الموقف يعد قيمة حداثية فذة، وكذلك موقفه صلى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية وطريقة تعاطيه عند كتابة وثيقة العهد بينه وبين المشركين، زد على ذلك إكباره للعلم والمعرفة وحرصه على التوجيه وحثه على العلم والتعلم والتدبر في الأشياء، وقل مثل ذلك في جرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقرر من على المنبر موضع الخطاب الديني والمعرفي بشكل عام خطأه وإصابة امرأة «أخطأ عمر وأصابت امرأة»، ويصدق القول ذاته على فلسفة الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، أو قوله: «ما ناظرت أحدًا إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على يديه»، هذه القيم الحداثية وسواها الكثير تجلجل في تراثنا العربي، لكن المثقف العربي اليوم لا يمتثل إلا لقول الآخر وفكره وفلسفته بوصفه رائد العصر ومنتج الفكر والمعرفة آنيًا، وهو لا يدري أنه يتجاهل مخزونًا معرفيًّا هائلاً تشع إشاراته بمفاهيم الحداثة وموجهاتها. إن الحداثة الغربية ما جاءت إلا بعد خوض معارك عنيفة من أجل التنوير وإعلاء شأن الفكر، جاءت كما في ظاهرها من أجل الإنسان وكيف يستطيع أن يصنع نفسه وتاريخه، إنها إفراز لأنظمة ثقافية مختلفة (اجتماعية واقتصادية وسياسية وفلسفية) لكنها في جملتها تستهدف الإنسان، هذه رؤية الحداثة من منظور معرفي وفلسفي ونقدي سواء خرجت من تحت كوفية غربية أو من تحت جلباب / قميص عربي..... إذن أين إشكالية الرؤية؟!. لا شك في أن السياق التاريخي يسهم بشكل كبير في تشكيل ملامح اللحظة الآنية (معرفيًا، وسياسيًا, واجتماعيًا واقتصاديا.....)، والوقوف على السياق التاريخي العربي القريب وقراءة أنساقه المختلفة يعكس ضمورًا بينًا في مختلف أنساقه، وقد أدرك في لحظة زمنية معينة مدى عزلته وجهله وتخلفه عن ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، وحينها بدأ في صراعه من أجل التحرر، وإيقاف حالة التدهور الشاملة، ولكن ذاته المتشظية، وذهنيته المشوشة أفضتا إلى وجود تكتلات ما أنزل الله بها من سلطان، وتحولت على إثرها قيم المعرفة والتحرر والرغبة في الانعتاق من الراهن وصوره إلى مبادئ ترسي ثقافة الشك والتوجس والتربص بالآخر في إطار الهوية العربية، وإلى اتخاذ مواقف عدائية قطعية مع الآخر /الأجنبي وهويته، ولنا النظر في بداية مرحلة ما سمي عصر النهضة، حيث بدت محاولات جادة لتحديث الذهنية العربية، رفع شعارها الطهطاوي، ومحمد عبده، ونقولا فياض، وسلامة موسى، وعلي عبدالرازق، وقاسم أمين، وطه حسين، وسواهم ممن حاولوا البحث عن شرعية مستقبل الإنسان العربي، واستنطاق الذات والبحث عن الجدة وإعادة النظر في إنتاجية الخطاب المعرفي والسياسي والاجتماعي، لكن ردة الفعل كانت عنيفة ومتطرفة ارتفعت خلالها شعارات غير متساوقة مع ظروف الواقع وتحولاته الجوهرية، وبدأنا نسمع مشروع :»القومية العربية»، والمشروع «التقدمي الماركسي» والمشروع «الإسلامي»، وكلها شعارات تعيد تقزم الأمة من جديد، وتجعلها تفكر من وراء جدر، وتعيش على هامش الوجود. كانت تلك اللحظة الزمنية الفيصل في تشريح أو في أقل تقدير تشتيت الذهنية العربية، وبدأت تعيش حالة من التوجس من الذات والآخر معًا، وهذا ما تتبدى صوره من إنتاجية المثقف العربي، ليس على مستوى الفكر والمعرفة، ولكن على مستوى السلوك والتطبيق، وإذا ما أردنا أن نؤسس معطيات يمكن من خلالها كشف ملامح إشكالية رؤية المثقف العربي للحداثة، فإننا سنقف على معطيين أساسيين تتجلى من خلالهما صور الإشكالية وحجم انعكاساتها على وعي الإنسان العربي، ولا يعنى أن هذين المعطيين هما دائرة الإشكالية في كليتها، ولكنهما وجهة نظر الأكثر علاقة بمحاور الإشكالية: المعطى الأول: إشكالية النسق المعرفي: لا عجب أن يكون للنسق المعرفي دوره الفاعل والخطير في الدخول إلى مسافات بعيدة في الأنساق الأخرى للمجتمع، فهو منظومة فاعلة في إعادة النظر في خصوصيات المجتمع والدخول إلى مكوناته وإعادة تشكيل أنظمته وقيمه، ولذلك يعول كثيرًا على فاعلية هذا النسق في تغيير بنية المجتمع وتجاوز السياقات التاريخية والاجتماعية المتكلسة، وعند النظر في النسق المعرفي للنخبة الثقافية في العالم العربي نجد أنه يمر في حالات متفاوتة من التحديث ترجع إلى خصوصية كل قطر عربي وظروفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكنه في الغالب الأعم متشابه في صوره ومفاهيمه، وإن كان منذ بدء فاعليته مطلع القرن العشرين وحتى الآن يسير على خطى متقاربة، سواء في إنتاجه المعرفي، أم في طريقة استهلاك إنتاجية الآخر، فعلى مستوى إنتاجيته نلاحظ أن معرفة المثقف العربي ونظرته إلى الأشياء قاصرة عن ملامسة روح العصر ومواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي، فالحداثة كما يتبين قيمة معرفية شاملة مستمرة تعيد النظر في أدوات الواقع ومفاهيمه وعلاقاته، هذا المفهوم كما يبدو يغيب عن ذهنية المثقف العربي، وإن تعرض له فنظرته إليه مشوشة وقاصرة، يبدو لنا ذلك من خلال الأفكار والمفاهيم التي يطرحها المثقف العربي في إنتاجه المعرفي، حيث تتنافى أو تنصدم مع خصائص الحداثة، على المستوى التنظيري والتطبيقي، فهذا أدونيس رائد الحداثة العربية كما يرى البعض له أكثر من رؤية حول الحداثة، فهي الجدة والمغايرة والمعاصرة، وهي التمرد على السائد وكل أنظمة المعارف والثقافة والفكر التي تمثل الماضي بمفهومه السلبي (2)، لكن هذه الرؤية تسقط أمام تجاربه الإبداعية الحداثية، فالناظر في إنتاجه الشعري والنقدي يلحظ ارتماءه بوضوح في حضن الماضي القريب والبعيد، ولاسيما حضن الآخر / الغرب، وقد أُلف حول تهافته الشعري كتاب تحت عنوان «أدونيس منتحلاً» كتبه الناقد كاظم جهاد (3) كشف فيه عن نصوص كثيرة متعالقة نصيًا بشكل فاضح مع نصوص بعينها من الشعر الغربي، وتبنيه كذلك للرؤية في كليتها، وهذا ما يتعارض مع توجهه الفكري والمعرفي والفلسفي المتجلي في نتاجه النظري، ففي كتابه «زمن الشعر»، وفي سياق حديثه عن الحداثة العربية يقرر أن المثقف العربي الحداثي يعيش بعقل الآخر وأدواته وذوقه، وهذا تعارض واضح بين التنظير والممارسة ويعكس إشكالية الرؤية في النسق المعرفي عند أحد رواد الحداثة العربية، وكذلك تتبدى إشكالية رؤية الحداثة في فكر المفكر والناقد العربي الكبير كمال أبو ديب، إذ تتسع نطاق الحداثة عنده لتشمل الآداب والفنون والتكنولوجيا، وأنها تتجاوز السياقات التاريخية والاجتماعية ولكنه في تطبيقاته النقدية في الغالب تتأسس على مفاهيم غربية سريعًا ما تتغير قناعاته وإجراءاته بتغير هذه المفاهيم، فحين جاءت البنيوية آمن بها وعمل على تطبيق خطواتها واقتفاء معاييرها في كتابه «جدلية الخفاء والتجلي»، وبلغت الممارسة التطبيقية حد التعمية، ولكن بعد ضمور التوجه البنيوي وتسيد منهجيات ما بعد الحداثة انطلق من جديد للتنظير والتطبيق لهذه المنهجيات دون تبيان ما تنطوي عليه من اختلافات معرفية وفلسفية تتنافى مع أسس الثقافة العربية ومفاهيمها. إن إشكالية رؤية الحداثة لدى المثقف العربي تتحدد أكثر عندما ننظر إلى الناتج المعرفي، فهو ناتج لا تعتمد أدواته على خصائص الواقع العربي ومكوناته، ومن ثم فهو غير قادر على كشف معضلات الأمة العربية وتثوير واقعها، إنها نواتج معرفية وفكرية وفنية ومادية متضاربة في الطرح متباعدة الرؤى في موضوع الحداثة كقيمة يجب أن تعيد إنتاجيتها بصورة مستمرة ومتلازمة، ليس على مستوى الناتج الفردي ولكن على مستوى الناتج الجمعي، فهو ناتج في مختلف صوره يفتقر إلى الجدة والموضوعية والتجاوز، فيه يعاد المنتج بماهيته ومفاهيمه. المعطى الثاني: إشكالية الفردانية/ الفحولة: فيما يبدو أن الشيء المطلق الذي تجمع عليه الذهنية العربية ويتوالى سياقها التاريخي على الإيمان به حتى اللحظة الزمنية الراهنة، مبدأ الفحولة الذي تسرب في النسق المعرفي غير آبهٍ تجاوزية الزمن، وظهرت صورته أكثر في الموروث الفكري والشعري والإبداعي بشكل عام، هذه النمطية المعهودة جنت كثيرًا على فاعلية العقل العربي وما ينتجه من معرفة، فالمثقف العربي وإن تدثر بالحداثة ومفاهيمها ما يزال يعيد إنتاجية الفحل في علاقاته وإفرازاته المعرفية، وإن بدا في صورة متمثلاً لمبدأ ما من مبادئ الحداثة فإنه سرعان ما يتنافى معه على مستوى التمثيل الفردي، والتثميل الجمعي معًا، وكانت العاقبة التفرد في الوضعية والإنتاج، التفرد في الفعل والفاعلية. إن الفعل الإبداعي الحداثي الذي يمارسه العقل العربي فعلٌ ناقصٌ في الإنتاجية والفاعلية، ومصيره يؤول إلى حضور الأنا الفحل (الشاعر الفحل، الناقد الفحل، السياسي الفحل، عالم الدين الفحل.....) الذي لا يؤمن بمشروعية الفعل الجمعي، وهذا ما أفضى إلى ربط مصير الأمة جمعاء بفكر الفحل وسياسته ورؤيته وأدواته ومعاييره الفحولية، ولنا النظر جميعًا إلى المنظومة الشاملة للفكر والسياسة والاجتماع في الأمة العربية، فالإنتاجية فردية قاصرة لا تمتلك مشروعًا إنسانيًّا وحضاريًّا يمكن أن يلتفت إليه الآخر أو يلفته، وإن بدت فيه بعض الملامح الإيجابية تعثرت أو تصادمت مع الأنا الفحل، أو الآخر الفحل في دائرة المنظومة ذاتها، يظهر ذلك كله جليًا في الخطاب الديني والأدبي والفكري والنقدي والسياسي على مستوى النظرية والتطبيق، إنه ناتج سلوكي ومعرفي منفصم وإقصائي، لا يعترف بالآخر ولا يتفاعل معه، أطرح هذه الرؤية وأنا أستذكر موقفا ً تشع منه الصورة دون أدنى ريب، ذلك عندما كان الناقد العربي الكبير عزالدين إسماعيل في مركز البحوث والدراسات اليمني يلقي محاضرة عن النظريات النقدية الغربية الحديثة، وكان ذلك بحضور الدكتور الشاعر والناقد الكبير عبد العزيز المقالح، ومن خلال سياق المحاضرة اتضحت رؤية الدكتور حول غياب النظرية النقدية العربية، ولما سألته عن مشروع الدكتور عبدالعزيز حمودة (4) ومحاولته الجادة في التنظير للنقد العربي، وتسليط الضوء على جذوره التراثية، فإذا الدكتور رحمه الله يتحدث بعصبية حادة يقلل فيها من جهود الرجل ومعرفته، وأن مشروعه لا يعدو عن كونه ظاهرة صوتية، وفي المكان ذاته وفي موقف مماثل له استمعت نفس الرد من الدكتور الناقد الكبير صلاح فضل، هذه المعرفة الإقصائية لم تكن قاصرة على فكر الرجلين الحداثيين، بل سمة سلبية دامغة تتسرب بقوة في النسق المعرفي للمثقف العربي قديمًا وحديثًا، وقد تناولها كثير من الباحثين بالنقد لكنهم يجسدونها عمليًا فالمفكر والناقد العربي عبدالله الغذامي على سبيل المثال في كتابه «النقد الثقافي» (5) يتناول الفحولة وتسلطها في الفكر العربي، لكنه في الكتاب ذاته يمارسها عمليًا في أثناء تعرضه لأدونيس وموقفه من الشعر العربي، وكذلك في كتابه الآخر «حكاية الحداثة في السعودية»، فمحتوى الكتاب في جوهره يتحدث عن حداثة الغذامي الفحل. هذه المطارحة ليست إلا إثارة لما يعتمل في الواقع الحداثي العربي، فثمة من يدعي الوصل بالحداثة، حين لا ينفع وصله، وثمة من يرفع سيفه في وجه كل حديث وهو لا يعرف أنه كمن «يخصي نفسه من أجل أن يغيظ زوجته»، إنها مفارقة عجيبة ساقت الأمة ردحًا من الزمن إلى الهامشية، دون أدنى محاولة جادة للبحث عن الجدة والإنتاجية الفاعلة، أو إعادة النظر في منظومة الأمة المعرفية والسياسية والاجتماعية وفق أدوات ومعايير علمية تسهم في تثوير الواقع والانتقال به إلى مرحلة تتسم بالإنتاجية والفاعلية. الهوامش والإحالات: (1) التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة،بيروت، 1991، ص 15، 16. (2) ثمة كتب فكرية ونقدية لأدونيس تعكس بجلاء هذه الرؤية منها: كتاب زمن الشعر،دار العودة، بيروت، 1983. - كتاب فاتحة لنهاية القرن. كتاب الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب. (3) ينظر: أدونيس منتحلاً، قراءة في الاستحواذ الأدبي، كاظم جهاد، مكتبة مدبولي، القاهرة. (4) ثمة كتب ثلاثة للدكتور عبد العزيز حموده ، وفيها يحمل لواء التنظير لنظرية نقدية عربية، والكتب هي: أ/ المرايا المقعرة. ب/ المريا المحدبة ج/ الخروج من التيه. (5) ينظر في كتب الدكتور: عبدالله الغذامي، منها: النقد الثقافي، وحكاية الحداثة في السعودية. (*) باحث من اليمن