دلالة روايات تركي الحمد على الثقافة العالمة، والاتساع المعرفي، سواء في مستوى ما تزخر به من معلومات ثقافية، أو في قدرتها على احتواء وتمثيل قطاعات متنوعة من التجربة الإنسانية، والتدليل على رؤية معرفية واسعة للإنسان والحياة وراء الحدود المكانية والزمانية المغلقة على عالم محدود، وتجليات لغته التي تحكي الأستاذية وتؤشر على ما يجاوز المستويات المبتدئة والضئيلة - هي دلالة قمينة بالاهتمام خصوصاً في سياق غلب عليه الاستسهال للرواية، وتكاثرت إصداراتها، التي لا تلمح وراء معظمها وعي المثقف المتجاوز، ودلالات استيعابه واتساعه المعرفي. وأعتقد أن غازي القصيبي في"شقة الحرية"1994 ثم بمساحة أكبر في"العصفورية"1996 هو من انعطف بالرواية السعودية إلى هذا المستوى الشاق من الإحالة على الامتياز الثقافي المعرفي الذي تَشَارَكَه معه - بعد ذلك- تركي الحمد وعلي الدميني ومحمد حسن علوان وعبده خال وليلى الجهني، وكانت رجاء عالم مقدمته وإرهاصه في"طريق الحرير"1992 وثمرة استحالته الأوضح اعتداداً وإدلالاً في"مسرى يا رقيب"1997 وما تلاها. إن الرواية، نوعياً، عمل ثقافي ضخم، فليس في الأجناس الأدبية ما يساويها في شغفها بالمعلومات والتحليل الاجتماعي والفلسفي، وقدرتها على استيعاب ذلك وتشكيله في صيغة حوارية، من دون أن يستحيل فيها ذلك المحتوى إلى عبء. وكل الروايات المميزة عالمياً وعربياً أمثلة على ذلك"فعند ماركيز، في"مئة عام من العزلة"لابد أن يلاحظ القارئ المعلومات التي تنثال عليه من حقول الجغرافيا والتاريخ والمكتشفات والنظريات والعقائد والإثنيات والأساطير... إلخ، و"مدن الملح"لعبدالرحمن منيف، معرض لنصوص فلسفية وتحليل سوسيوثقافي من طراز رفيع، والأمر ذاته يمكن أن تكتشفه من دون جهد في أبرز روايات نجيب محفوظ والطاهر بن جلون، مثلما نطالعه لدى سارتر وخوسيه ساراماجو وجونتر جراس وغيرهم. هذه الخاصية تجعل الرواية علامة على ما يتصف به الروائي من ثقافة كبيرة ومتنوعة، على مستوى المعلومات وعلى مستوى العقل الفلسفي واللغة، ولهذا كانت تاريخياً لازمة عصرنا هذا المتفجر بالمعرفة، والحفي بالعقل، والشغوف بأسئلة الهوية والكينونة والمجتمع، والمدرك لقيمة اللغة الرمزية والمرجعية للوعي. ومارت روبير تلاحظ أن الرواية، باحتوائها إلغائها؟ الأنواع والخطابات الأدبية القديمة، تستحوذ على قطاعات من التجربة الإنسانية متزايدة الاتساع، فتتباهى أن لديها معارف معمقة عنها، وتعطي عنها نسخة أمينة، تارة بنقلها مباشرة، وتارة بتأويلها على غرار الأخلاقي والمؤرخ واللاهوتي وعلى غرار الفيلسوف والعالم. وترى في هذا الصدد أن الروائي استطاع أن يرتقي بوظيفته عن مستوى راوي الأخبار ومن يقوم بتسلية الناس، فأصبح يراكم وظائف العالم الصارمة، والقس، والطبيب، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، والمؤرخ. وروبير، هنا، تدلنا على اتجاه الرواية، جوهرياً، إلى التعبير عن كلية الواقع، وهو ما بنى عليه بيير شارتيه في كتابه"مدخل إلى نظريات الرواية"1990 العلة التي تعدَّد بموجبها أعداء الرواية، فهي تُهَاجَم بشراسة من الدوائر الدينية والأخلاقية والسياسية، بل حتى الاستاطيقية، وتقاضَى من جهات مختلفة، لأنها ترى أن الرواية تزعم الحلول محلها. لكن الروائي جبرا إبراهيم جبرا يرى هذه المعرفية في الرواية واتساع الروائي بها إلى مهام مختلفة، من خلال ما يوجده الكاتب من سبل تؤدي إلى تجديد الحياة وإدراكها على غير ما يتوقع المجتمع، وهذا ما يجعل المجتمع يلقي على الروائي مهمات أكبر، فيطالبه بإعادة إبداع للواقع وللحياة، وبإيجاد حلول هي أصلاً من اختصاص أنواع أخرى من المعرفة: التاريخ، السوسيولوجيا، علم النفس، وغيرها من العلوم. وقد كانت الرواية، في محاجّة نجيب محفوظ الشهيرة للعقاد الذي لم يكن يعدل بالشعر فناً آخر مجلة الرسالة، 3 أيلول سبتمبر 1945، امتياز عصر العلم والصناعة والحقائق، وأنها تتصف باتساعها لجميع الأغراض، ومن ثم قدرتها على التعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها. وهي معان تصل الرواية بمعنى مجاوزة الفطرية والبدائية التي يجود الشعر - من الوجهة الغنائية والرومانسية بها، وتدلل على ضرورة الشمول والاتساع في وعي كاتب الرواية وثقافته واستيعابه المعرفي ليتمكن من التعبير والتمثيل للتجربة الإنسانية التي تستبطن التنوع والتعدد والكثرة، وتفارق الأحادية والمحدودية والانحصار. في روايات القصيبي والحمد ورجاء عالم والدميني وأمثالهم تكتشف أنك تقرأ لكاتب واسع المعرفة، ومتنوع الثقافة، وذي نهم على القراءة وفضول إلى الاطلاع. ولو أحصينا - فحسب - ما تزخر به من معلومات لانتهينا إلى ما يؤكد ذلك. أما تلك الرؤية التي ترى الأشياء والأشخاص أو تستمع إلى بعض الأقوال فتذهب بها إلى أسئلة تستبصر العمق وراء عرَضيتها، وتأخذها إلى تجريد فلسفي، فإن دلالتها واضحة على مستوى من العقل ونافذة من الوعي غير محدودة أو ضيقة. لكن الأسئلة، التي تقفنا هذه الحقائق على بابها، تصب - حتماً - في مواجهة التدفق الروائي، والجيشان المحموم لروايات صغيرة، وإن تكاثرت صفحاتها، لأنها محدودة العقل، وضيقة الرؤية، وبلا دلالة على اتساع أفق كاتبيها، وتنوع معارفهم: لماذا الاستسهال؟ لماذا السطحية والضآلة؟ ولماذا الإصرار؟. وأتصور أن هذه الأسئلة تأخذ وجاهتها - أيضاً- من منطق الإبداع الحديث، لاسيما الشعر منه وهو الأعرق حداثة، فقد أصبح أكثر دلالة على العمق والاتساع المعرفي، وغدت الثقافة الواسعة حاجة ماسة لتلقيه، مثلما هي خاصية أساس في تكوينه.