ارتفاع أسعار النفط عند التسوية    أمير القصيم يكرم بندر الحمر    نائب أمير الرياض يعزي رئيس مركز الحزم بمحافظة وادي الدواسر في وفاة والدته    نجل بولسونارو: والدي دعم ترشحي لرئاسة البرازيل في 2026    البيت الأبيض: أوروبا معرضة لخطر «المحو الحضاري»    اكتشاف استثنائي لمئات التماثيل الجنائزية بمقبرة تانيس في مصر    سالم الدوسري عن قرعة المونديال : لكل حادث حديث... حالياً تركيزنا على كأس العرب    أمير الرياض يتوج الفائزين بأول السباقات الكبرى على كأسَي سمو ولي العهد للخيل المنتَجة محليًّا ولخيل الإنتاج والمستورد    مساعد رينارد يتفوق عليه في فوز الأخضر الكبير بكأس العرب    الأخضر يتغلب على جزر القمر بثلاثية ويتأهل لربع نهائي كأس العرب    جمعية ريف تُكرَّم في المنتدى الدولي للقطاع غير الربحي لحصولها على شهادة الاستثمار ذي الأثر الاجتماعي عن مشروع "مطبخ طويق"    منتخب السعودية يتأهل لربع نهائي كأس العرب بالفوز على جزر القمر    المكسيك تواجه جنوب إفريقيا في افتتاح كأس العالم 2026    الأخضر الأولمبي يتغلب على البحرين بخماسية في كأس الخليج    تقارير.. حقيقة خروج نونيز من الهلال في الشتاء    نادي وسم الثقافي بالرياض يعقد لقاءه الشهري ويخرج بتوصيات داعمة للحراك الأدبي    سيبراني تختتم مشاركتها في بلاك هات 2025 وتُعزّز ريادتها في حماية الفضاء السيبراني    جامعة القصيم تحصد الجائزة الوطنية للعمل التطوعي لعام 2025    Gulf 4P, CTW & Mach & Tools 2025 المنصّة الإقليمية الرائدة للابتكار والتقدّم الصناعي    بمشاركة 3000 مستفيدًا من منسوبي المساجد بالمنطقة … "الشؤون الإسلامية" تختتم برنامج "دور المسجد في المجتمع" لمنسوبي مساجد الشريط الحدودي بجازان    خطيب المسجد النبوي يبيّن مكانة آية الكرسي وفضلها العظيم    الدكتور المعيقلي يزور مقر الاتحاد الإسلامي في جمهورية مقدونيا الشمالية    مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون يفوز جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير القطاع الصحي    الذهب يستقر مع ضعف الدولار وسط رهانات خفض أسعار الفائدة وتراجع عوائد السندات    مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يشارك في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025    وزير التعليم يلتقي القيادات بجامعة تبوك    اللواء العنزي يشهد حفل تكريم متقاعدي الأفواج الأمنية    هيئة الهلال الاحمر بالباحة تشارك جمعية الاطفال ذوي الاعاقة الاحتفاء باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة    جمعية التطوع تفوز بالمركز الأول في الجائزة الوطنية للعمل التطوعي    اعلان مواعيد زيارة الروضة الشريفة في المسجد النبوي    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله    التوصل لإنتاج دواء جديد لعلاج مرض باركنسون "الشلل الرعاش"    أمين جازان يتفقد مشاريع الدرب والشقيق    تهامة قحطان تحافظ على موروثها الشعبي    الدفاع المدني يحتفي بيوم التطوع السعودي والعالمي 2025م    أمير تبوك يستقبل معالي وزير التعليم ويدشن ويضع حجر الأساس لمشروعات تعليمية بالمنطقة    جمعية سفراء التراث تحصد درجة "ممتازة " في تقييم الحوكمة لعام 2024    معركة الرواية: إسرائيل تخوض حربا لمحو التاريخ    سفير المملكة في الأردن يرعى حفل ذوي الإعاقة في الملحقية    قمة البحرين تؤكد تنفيذ رؤية خادم الحرمين لتعزيز العمل الخليجي وتثمن جهود ولي العهد للسلام في السودان    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    مفردات من قلب الجنوب ٣١    أمير تبوك يواسي في وفاة محافظ الوجه سابقاً عبدالعزيز الطرباق    فرع الموارد البشرية بالمدينة المنورة يُقيم ملتقى صُنّاع الإرادة    سمر متولي تشارك في «كلهم بيحبوا مودي»    معرض يكشف تاريخ «دادان» أمام العالم    الناتو يشعل الجدل ويهدد مسار السلام الأوكراني.. واشنطن وموسكو على حافة تسوية معقدة    أكد معالجة تداعيات محاولة فرض الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يعتذر عن الأخطاء تجاه «الشمالية»    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    تعاون سعودي – كيني لمواجهة الأفكار المتطرفة    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    آل حمدان يحتفل بزواج أحمد    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    ابتكار علاج صيني للقضاء على فيروس HIV    الكلية البريطانية تكرم الأغا    إقحام أنفسنا معهم انتقاص لذواتنا    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعمال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة . سمات التجربة الروائية السعودية كما تجلت عبر مراحل متعاقبة
نشر في الحياة يوم 11 - 01 - 2004

تختلف التجارب الروائية باختلاف أزمنتها وأمكنتها، حيث تتحدد كل تجربة بخصائص وسمات عامة تبعاً لموقعها داخل فضائها الثقافي. ونلحظ بروز بعض السمات في سياق البنية الروائية أو في محتواها او فيهما معاً. وتبرز خصائص التجربة الروائية من حيث الشكل كما في تجربة الواقعية السحرية عند كتاب أميركا اللاتينية، أو تقنية الرواية الحديثة لدى الفرنسيين وبخاصة في أسلوب تعدد الرواة الذي يشي فلسفياً بحضور التجربة الديموقراطية في المجتمعات الغربية، او من حيث المضمون كما في الرواية الوجودية أو في الرواية الاشتراكية، او في ظهور تجربة استلهام التراث السردي في الرواية العربية. السؤال الآن، ما حظ الرواية المحلية من امتلاك سمة او خاصية تميزها عن الرواية العربية، فضلاً عن الرواية العالمية؟
من العبث ان نبحث عن سمة من هذا النوع للرواية المحلية. فروايتنا في ذلك تابعة من غير عيب، ومتأثرة من غير أسف، انما العمدة في النهاية على الاجادة والاتقان. ومن غير شك، فإن الرواية الآن بحال افضل مما مضى. وفي ذلك اسباب سنأتي على ذكرها. غير ان امر سمات الرواية المحلية وخصائصها يمكن ان نلجه من باب آخر. فالامر ليس مقصوراً على الاضافة الى المنجز العربي او العالمي. فهناك سمات قد تحدد هوية التجربة التي تستمدها من واقعها. ويمكن تحديد بعض سمات التجربة الروائية المحلية.
1- روائيون برسم قروي
هل مقولة "الرواية ابنة المدينة" لجورج لوكاتش تنطبق على الرواية المحلية، من حيث المفهوم، ومن حيث الانتاج؟ وهل ثقافة المكان شرط في انتاج الرواية؟ قبل الاسترسال في محاولة اقتناص الاجابة استدلالاً بحقائق موضوعية او تأويلاً وتفسيراً يمكن ان يساعدا على فهم هذه الظاهرة، اقول قبل كل ذلك، هناك مفارقة صارخة يلحظها من يتأمل المشهد الروائي المحلي، وهي من ان جلّ من يكتب الرواية المحلية من ابناء القرى الذين يعيشون بوجدان القرية في المدينة. انهم سدنة لقراهم، بل روائيون برسم قروي. ولا ضير في ذلك، لكنها ظاهرة لافتة، بل سمة يجب التوقف عندها.
يبدو ان للامر علاقة بمفهوم المدينة لدينا. لا احد يجادل في ان سنوات الطفرة عجلت بنمو مناطق حضرية من حيث الشكل المادي قبل ان تنضج اجتماعياً وثقافياً حتى يتم الانتقال الطبيعي من مجتمع القرية الى مجتمع المدينة. ان معظم مدننا مدن تريَّفت، بمعنى انها تحولت الى مجمعات قروية او ريفية يسكنها ابناء القرى بعاداتهم وتقاليدهم القروية، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى حافظت كل مجموعة قروية على انتماءاتها داخل المدينة او هذا المحيط الكبير الذي يساعد على وجود فرص عمل اكثر من فرص القرى. واصبحت المدينة مدينة في شكلها الخارجي، لكنها ظلت مسكونة بالقرية في كل مناحيها.
واذا استثنينا مدناً مثل مكة المكرمة وجدة والمدينة بوصفها مدناً لها تاريخ وتنوع سكاني وثقافي بسبب وجود الحرمين ووجود ثقافة التجارة والبحر من حولها، فاننا لا نكاد نجد شكلاً للمدينة بمعناه الثقافي والاجتماعي، وليس المادي، في بقية مناطق المملكة. وعليه فاننا لا نستغرب ان يكون معظم من يكتب الرواية لدينا من امثال ابراهيم الناصر، وعبدالعزيز مشري، وأحمد الدويحي، وعبده خال، وابراهيم شحبي، وعبدالحفيظ الشمري، ونوره الغامدي، وغيرهم، يكتبون عن القرية اكثر مما يكتبون عن عالم المدينة الذي يعيشون فيه. فمعظم رواياتهم تعبر عن القرى او عن صراع القرية مع المدينة سواء على مستوى القيم أو على مستوى التحولات الاجتماعية، حيث يكون الانتصار غالباً لثقافة القرية على حساب المدينة. فهم يعيشون في المدن ويدينونها. ولعل المتأمل في روايات عبدالعزيز مشري على وجه الخصوص يلحظ بوضوح نوستالجيا او حنيناً مفرطاً لعالم القرية المثالي الذي يصارع من اجل البقاء، اما خوفاً من طوفان التمدن كما في رواية الوسمية او ريح الكادي. او عدم القدرة على التعايش عند ابراهيم الناصر في رعشة الظل، او لدى ابراهيم شحبي في انثى تشطر القبلية، او عودة للجذور عند احمد ابو دهمان في "الحزام"، السيرة / الرواية، الذي عندما فكر ان يكتب لم يكتب عن باريس، المدينة التي يعيش فيها، بل كتب عن قرية من قرى بني شهر. مرة اخرى ما اقوله ليس نقيصة، بل انه تجربة خاصة تدعو للتأمل اكثر من تصدير اجابات حاسمة.
السؤال: هل المدينة غائبة عن كتابات الروائيين؟ تقتضي الموضوعية ان نشير مرة اخرى الى ان روح المدينة كما نلاحظها في مكة مثلاً افرزت كتابات روائية نستطيع ان نلامس فيها الى حد ما مقولة لوكاتش الذي يعتبر ان الرواية ابنة المدينة من حيث انها "الشكل الأدبي الاكثر دلالة في المجتمع البورجوازي". وتحضرني رواية الحفائر تتنفس لعبدالله التعزي حيث يصور العالم الهامشي في مجتمع حي الحفائر من خلال شخصية سراج الاعرج. فالمدينة بما لها من تركيبة سكانية طبقية معقدة وثقافات متباينة، مثل فئة الشناقطة، تحضر في الرواية كشاهد على التمايز العرقي والثقافي في هذه المجتمعات الوافدة الى مدينة تسمح لكل من يأتيها بالانتماء عطفاً على قدسية المكان. ونلاحظ تجربة مشابهة لدى محمود تراوري في ميمونة، الرواية التي تصور قوافل الخلاص التي تقذف بمئات الأفارقة الى مجاورة البيت العتيق. ويتحول مجتمع المجاورين الى ظاهرة في الرواية وفي الواقع قلما نجد من تنبه لها روائياً من قبل. كما لا يمكن ان نغفل روايات رجاء عالم سواء "خاتم" او "سيدي وحدانة".
سئل نجيب محفوظ في احد اللقاءات لماذا لم تكتب عن القرية المصرية وقصرت كتاباتك على عالم المدينة؟ اجاب باقتضاب، لكن في شكل بليغ، لأنني لم أعش فيها. فربط المعايشة والسكنى بالتجربة الروائية. ونجيب محفوظ الذي مثل مقولة لوكاتش خير تمثيل، جاءت اعماله انعكاساً لتجربته لا على سبيل الوعي، بل على سبيل المعايشة، ففي تصوري ولو اراد ان يكتب عن القرية المصرية لكتب، لكن العبرة بما هو مكتوب.
ولعل تركيبة المدن لدينا تفرض نوعاً من هذه الحالة. فهي مدن لا تزال في طور التكوين، تحتاج الى اجيال لتغيير بنيتها الاجتماعية والثقافية. فعلى رغم اننا نعيش في المدن فإن ولاءنا للقرى، بل كثير منا استبقى موطئ قدم في قريته لعدم ثقته بالمدينة. فهي بالنسبة للكثر انتماء عرضي ينتهي بانتهاء دواعي الاقامة. وعليه فانني اعتبر الروائيين الذين ينشط في اعمالهم الحس القروي مفتقرين لمعايشة المدينة، لا نقصاً فيهم، لكن لعدم بروز ملامح المدينة في شكل كامل.
2- غياب المجايلة
في البحث في اي تجربة روائية لا بد من التوقف عند اصولها ومنطلقاتها ومرجعياتها. وتجربة الرواية المحلية ليست بدعاً بين التجارب. فماذا عن مرجعية هذه التجربة؟ هل هناك مرجعية محلية لهذه الروايات يمكن تشخيصها وتحديد سمات التقارب والتباعد مع ما سبقها من روايات الاجيال الماضية، ام انها منعدمة الصلة بما سبقها من منجز روائي محلي؟
اذا قسنا المسافة الزمنية بين صدور رواية التوأمان لعبد القدوس الانصاري في عام 1930 وبين اللحظة الراهنة نكون قد عبرنا ما يزيد على سبعين عاماً من الكتابة الروائية. هل هذه المرحلة الزمنية الطويلة تبرر ما لدينا من انتاج روائي؟ بمعنى، هل سبعون عاماً زمن كاف لانتاج تراكم سردي يمكن ان يترك اثراً ما؟ ان واقع الحال الذي تعرفون يجيب ان ما لدينا من منتج روائي قليل، بل اقل كثيراً مما هو مأمول من انتاج طوال هذه السنين. أليست هذه سمة تضاف الى السمات التي تصبغ المشهد الروائي المحلي. وتحيل الاسئلة الى شكوك مدببة ظللنا نتحاشى مواجهتها فلسفياً ومعرفياً، واكتفينا فقط بالحديث في الغالب عن الاعمال المفردة. نعم، لقد ظللنا زمناً ظويلاً نشتكي من غياب الرواية المحلية في مقابل الحضور الكثيف والقوي للقصة القصيرة. في ظل هذا التراكم المتواضع نشأت ظاهرة اخرى وهي غياب فكرة الاجيال الروائية. فكتاب التسعينات من القرن الفائت الميلادي، وهم بالمناسبة يمثلون نسبياً زمن الطفرة الروائية لدينا، لا يجدون حرجاً في الافصاح عن عدم إلمامهم بالتجارب السابقة من امثال ما كتبه عبدالقدوس الانصاري واحمد السباعي ومحمد علي مغربي وحامد دمنهوري او ابراهيم الناصر، وحمزة بوقري. والاهم من ذلك ان تجربتهم في الكتابة تأخذ بأسباب التقنية الحديثة سواء في مستواها العربي او العالمي. فليس من العسير ان تجد ظلال الواقعية السحرية لدى عبده خال، وليس مستبعداً ان تجد القلق الوجودي في روايات التعزي وتراوري وليلى الجهني، كما ان مظاهر التناص ملموسة بوضوح في روايات رجاء عالم وخاصة في مسري يا رقيب. هذه الحركة الروائية منفتحة على عالم مرجعيته ليست الرواية التي كتبها الانصاري او أحمد السباعي او حتى دمنهوري وابراهيم الناصر، بل ان روايات عبدالعزيز مشري على كثرها لم تترك اثراً في الجيل الذي تعد كتاباته اقرب الى جيل التسعينات. ان غياب المجايلة يبدو منطقياً اذا نظرنا لغياب التراكم السردي وتنوعه. فما كان من جيل الطفرة الروائية الا ان يتربى على قيم روائية لا علاقة لها كثيراً بما أنجز سابقاً.
السؤال لماذا إثارة مثل هذه القضية واعتبارها ملمحاً من ملامح التجربة الروائية المحلية؟ معلوم ان تواصل الاجيال شرط معرفي وحياتي لا تستقيم سنن الحياة بعيداً من الاخذ به. ألم يقل النقاد يوماً ان الكتاب الروس خرجوا من عباءة غوغول، وقيل في ادبنا العربي ان روائيي الستينات في مصر خرجوا ايضاً من عباءة محفوظ. وهي مقولة رددها كثير من الكتاب والنقاد المصريين من امثال رجاء النقاش ولطيفة الزيات التي عبرت عن هذه الفكرة بقولها: "أنا أؤمن بأن من يكتبون القصة في مصر في الوقت المعاصر يكونون وحدة لا تنفصم. فنحن ننمو بعضنا من بعض، ويبني كل منا على التقدم الذي يحققه كل منا". اذاً ان الخروج من العباءة يشترط ارتداء العباءة اولاً قبل ان يخلعها من استقام له فن الرواية. ان ارتداء هؤلاء الكتاب للعباءة الروائية لم يمنعهم من التطوير والتجديد والانفتاح على تجارب الغير. لقد اندفع كتاب الرواية المحلية نحو الاخذ بأسباب التجارب الروائية الخارجية، وهذا حقهم، غير انه يجب ان نقرر انه من الضروري العودة الى التجارب السابقة لمعرفة كيف تناولت الاجيال السابقة بعض القضايا. فالوقوف على رواية ثمن التضحية لحامد دمنهوري ضروري لنعرف كيف عالج الكاتب العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمع لم يكن قد سمح للمرأة بالاخذ بأسباب التعليم النظامي. وقراءة روايات الناصر وخاصة المبكرة تكشف العقبات الجمالية والموضوعية التي تغلب عليها الروائي.
3- غياب المكان
يظل حضور المكان من متطلبات الكتابة السردية، بل ان حضوره جوهري في تأكيد انتماء العمل لبيئته. غير ان المتتبع لواقع الرواية المحلية يلحظ ان المكان في بعض الروايات مجرد كولاج يضاف على الرواية في شكل آلي غير مؤثر في مسيرة الاحداث، بل ان استبداله بمكان آخر لا يغير من طبيعة الاحداث ولا طبائع الشخوص ومستوى التعبير اللغوي وخاصة في الجمل الحوارية او المونولوغ الذاتي. فالمكان ليس مجرد اسم يذكر، سواء كان اسم مدينة أو قرية، وحي او غير ذلك. فعلى الروائي ان يسأل نفسه هل تغيير المكان سيغير من طبيعة الاحداث والشخصيات؟ فإذا كانت الاجابة نعم، فالمكان بالتالي سيكون له حضوره ودوره في الرواية.
ولتأكيد اهمية المكان يمكن ان نلاحظ تجربة نجيب محفوظ، حيث يظهر في رواياته الواقعية بصفته جزءاً من اركان العمل. فالحارة سواء كانت رمزاً او واقعاً لعبت ادواراً مهمة في بلورة الاحداث والتأكيد على مصائر الشخصيات وانتماءاتهم. فزقاق المدق وخان الخليلي وبين القصرين وقصر الشوق والسكرية خلفيات تحرك المشاهد وتحدد هويات الشخوص وترسم ابعاد العلاقات الاجتماعية داخل العمل الروائي. فهي تجربة مكانية داخلة في نسيج البناء لا يمكن ان تنهض الاحداث من دونها.
ان غياب المكان ليس في عدم الاشهار به، فذلك موجود في كل الروايات. فلا يعقل اصلاً ان تنهض رواية خارج الحيز المكاني سواء كان براً او بحراً او جواً على متن طائرة مثلاً. فالاحداث لا بد من ان تأخذ موقعها في مكان ما. غير ان المقصود هو متى يصبح المكان منتجاً للاحداث ومؤثراً فيها اكثر منه حاضناً لها؟ واسمحوا لي ان اضرب مثالين للحضور والغياب. اما غياب المكان المنتج للاحداث فنجده في رواية عبده خال الطين. فعلى رغم نجاح الرواية الا ان المكان كان اقل العناصر حضوراً، بل يجوز استبداله بمكان آخر. ذلك ان فكرة الرواية تبحث في القلق الوجودي لشخصية ترى انها تحمل وجوداً مزدوجاً، وجوداً ملموساً للآخرين، ووجوداً يحسه البطل دون الناس ويتعذب به. فلم تشفع ذكر الامكنة بدءاً من جازان ومروراً بالرياض وانتهاء بجدة في اقناعنا بعلاقة الاحداث بالمكان. لقد ظل المكان خلفية متحركة يمكن استبدالها بأي مكان آخر من دون ان تتأثر احداث العمل او مصائر الشخصيات.
اما حضور المكان فنجده في رواية ميمونة، حيث يصبح الجوار الى جانب البيت العتيق صفة ملازمة للاحداث وخصوصية لا يمكن ان نراها بهذا المعنى الروحاني الا في مكة المكرمة. فالمنكان هنا مؤثر في مسيرة الاحداث، بل ومنتج مقنع لمسار الشخصيات وبنية العمل ككل. ولعل تجربة التعزي في الحفائر تتنفس تغري بتأمل حضور المكان وتأثيره على مسيرة الاحداث وخاصة عندما يعمد الكاتب الى الحوار العامي وربط التفاصيل اليومية بعالم الحفائر. ويمكن ان نعتبر التعزي قد تلمس حارة نجيب محفوظ بعناية جعله يغرق في التفاصيل التي بدت احياناً زائدة على حدها.
4- النفط والرواية
هل نحن مجتمع نفطي؟ ام نحن مجتمع يعيش على مداخيل النفط؟ اعتقد انكم تتفقون معي اننا لا نعيش تجربة النفط صناعة وتجارة ومعايشة، بل نحن نستهلك النفط كأي مجتمع لا يملك قطرة واحدة منه. غير ان النفط قلب حياتنا رأساً على عقب. أخرجنا من ضيق العيش الى رحابة الحياة، ومن فقر التعليم الى تطوره واتساع انتشاره. لقد صنع النفط منا مجتمعاً مختلفاً، ليس بالضرورة سيئاً، لكنه حتماً معقداً ومضطرباً. ويأتي ذكر تجربة الرواية هنا بصفتها نصاً يحتمل التعبير عن التحولات الاجتماعية والاحداث الكبرى. غير اننا لا نجد النفط بصفته موضوعاً روائياً متكرراً. فلماذا؟ سؤال يبدو جوابه في واقع علاقتنا بالنفط. فنحن لا نعرفه كمعايشة، فلا نكاد نعرف اننا دولة نفطية الا عندما يحين اجتماع منظمة اوبك او عندما نلاحظ خفضاً في اسعار النفط. واذكر عندما كنت في القرية ان رجلاً ذهب للعمل في مناطق النفط، وعندما عاد بعد سنوات كان مميزاً بين اهل القرية لأنه يتكلم لغة لا يحسنها احد غيره، وظل في نظر اهل القرية رجلاً عارفاً بكل امور الدنيا وهو لم يخذل احد فكان يبتدع الحكايات ويؤلف المفارقات ويبدع البطولات الخارقة، وعندما يظهر الشك في عيون المستمعين يبطله بمفعوله السحري، بكلمتين من اللغة التي لا يفهمها احد ممن حوله. هل نجد مثل هذه الشخصية في رواياتنا. لا، وفي ظني ان مثل هذه التجربة محدودة، فمن أين للروائي مادة اذا شحت في واقع الحياة.
هل تدركون معي كم خسرنا بعدم معايشة النفط؟ انه تاريخ غامض مدون في كتب الآخرين اكثر من كتبنا ورواياتنا الى حين. أليس غياب النفط عن فضاء الرواية محط سؤال مشروع، بل انه سمة في عدم حضوره ودلالة على مفارقة اكبر من حيث علاقتنا بالنفط؟ وهي علاقة سطحية قد لا نستغربها، لكن اي دارس واع من خارج هذه البلاد لا شك انه سيأخذ الغياب بصفته دلالة تستحق التأمل في هذه الرواية المعزولة عن واقع النفط.
أردت ان أبين تجربة الرواية المحلية والملامح الخاصة التي تميزها عن غيرها من التجارب. وهي نقاط تحتاج الى مزيد من البحث والمراجعة. وإنما قامت الرغبة في اثارتها لمزيد من الحوار الذي يؤكد اتجاه التفكير فيها او يسعى الى استبدالها بما يعزز تشخيص المشهد الروائي بطريقة مغايرة.
* ناقد وأكاديمي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.