قبل وقت ليس ببعيد أحزننا خبر قيام أم بقتل طفلتها في مغطس الاستحمام، وقالوا إنها تعاني من اضطرابات نفسية، ولم يمر أسبوع حتى صدمنا بخبر مقتل والدة وابنتها في مغطس الحمام غرقاً على يد الزوج وبالطريقة نفسها، وقيل إنه أحيل إلى الطب النفسي، لأنه يعاني من اضطرابات نفسية! هاتان الحادثتان أرجعتاني إلى حادثة وقعت هنا في مدينتي"طيبة"قبل نحو ثماني سنوات راح ضحيتها 11 شخصاً على يد رجل يعاني"فصاماً"في الشخصية، وقد حدث القتل بين المدينةوجدة، إذ سافر الجاني متوجهاً إلى منزل أخت زوجته، لأن زوجته وأبناءه موجودون في بيتها، فقام بربطهم وقتلهم جميعاً بمن فيهم أخت زوجته وأبناؤها، وقدّر الله للخادمة أن تتوارى عنه وتخرج للشارع فزعة تحكي ما رأته عيناها، والقصة عرضت في الصحف مصورة ومحللة للحادثة. أحسستُ بالخوف يدب بين أضلعي، خوف زادت من حدته ردات فعل تلك الجرائم اجتماعياً وإعلامياً، خصوصاً أن ما حدث في مدينتي جعل سكانها يرتجفون رعباً وهلعاً بعد أن تحصن القاتل داخل بيته لمقاومة قوات الأمن التي طوقت بيته، فما كان منه إلا أن انتحر في سطح، ومن شدة الهلع الذي أصاب إحدى قريباتي أصبحت لا تنام، ويصيبها اضطراب شديد عندما يدخل عليها زوجها وأبناؤها... من ذلك الوقت وأنا أسأل نفسي: ما الذي يجعل الآباء يقدمون على قتل أبنائهم وهم الذين ينجبونهم ويضحون بأنفسهم من أجل تربيتهم؟ ما الذي طرأ على كثير من البشر من أمراض لم تكن في أسلافهم؟ اللهم إلا في العصر الجاهلي من وأد للبنات! ما الذي يحيل الآباء في عصرنا هذا إلى قتلة لزوجاتهم وأبنائهم؟ تلك أسئلة تدعو المتخصصين لإجراء الأبحاث اللازمة للوصول إلى علاج لهذه الكارثة المتزايدة الانتشار، وهذا ما يدعوني لأتقدم إلى الأطباء النفسانيين باقتراحات للحد من هذه الكارثة بمشاركة أسرية ومجتمعية. الاقتراح الأول: على الطب النفسي أن يظهر نفسه أكثر وأكثر عبر الوسائل الإعلامية المختلفة لتثقيف الناس ورفع الإحراج عن الخوض في الأمراض النفسية وكأنها حرام أو عيب يخجل منه من يعانيه ويخفي حالته حتى تتفاقم وتصل إلى درجة الخطر على أسرته وعلى المجتمع. الثاني: على الأطباء النفسانيين أن يؤكدوا أن للإيمان الروحي دوراً كبيراً في تحصين الإنسان المؤمن ضد الأمراض أو الحد من تطورها حتى يتم علاجها. الثالث: تثقيف الأسر لتوعيتها بأن الأمراض النفسية يمكن أن تكون كأي مرض قابل للعلاج إذا ما عرض من تظهر عليه أعراضه على الطبيب باكراً. أذكر قبل خمس سنوات تقريباً حادثة وقعت في الحي المجاور لحينا، حين ألقت أم وليدها من الطابق الثاني عقب صلاة الفجر، فتجمع الناس حول المبنى وبحضور الوالد من صلاته تفاجأ بهذا الجمع حول بيته وبمعاينته وجد طفله ملقى على الأرض يسبح في دمه، فظن أنها جريمة سطو على بيته، لكنه اكتشف أن زوجته والدة الطفل تعاني مما يعرف باكتئاب ما بعد الولادة... وهذه أمراض يجهلها كثير من الأزواج والزوجات بينما تهولها فئات أخرى. الرابع: عمل أبحاث كثيرة للوصول إلى معرفة دوافع إقدام المريض على القتل، على رغم خطورته وصعوبته، وعلى رغم أنه أول خطيئة وقعت على الأرض وسال معها الدم، وأول خطيئة حذّرنا الخالق منها. في مقالي المقبل سأسرد بعض قصص المرضى النفسانيين الذين رأيتهم، ولمست معاناتهم وتطور مرضهم ومآلاتهم المؤلمة، علّها تحفز علماء الطب النفساني على جدية أكبر بكارثة انتشار الأمراض النفسية التي يتكتم عليها الكثيرون من المصابين بها، وتلزم أسرهم الصمت خجلاً. [email protected]