إلا أنه قد تنبع مشكلة أخرى تجاه هذا التوجه، وهي أن هذه التفجيرات الأخيرة التي وقعت في الرياض، قد توجد بيئة حاضنة للخوف والهلع لدى الأطفال، والذي قد يظل ملازماً لهم فترة طويلة، ونحن هنا قد لا نتحدث عن التأثير الوقتي الذي قد ينتهي بانتهاء الحدث وإنما نسعى لرصد التحولات والتغيرات لدى الطفل في مرحلته الراهنة وعندما يكبر ويصبح يافعاً، فقد تنطوي هذه التغيرات بالتأثير عليه في الجانب الدراسي، ومن ثم قد ينعكس على سلوكياته وأخلاقه، وتالياً عندما ينضج ويصبح شاباً يواجه أعباء الحياة متأثراً بتلك العقد النفسية المنطمرة داخل نفسه. قد يكون هذا التصور موغلاً في التشاؤم، وقد يكون تنظيراً علمياً بعيداً عن أدوات الرصد الميداني والقريب من موقع الحدث. إلا أن هذا التحقيق يسعى لدحض هذا التشكيك ومحاولة إلقاء الضوء على هذه الظاهرة فكانت هذه المحصلة: صنفان من الأطفال.. يقول عبد العظيم الصادق أخصائي نفسي إكلينيكي: تعتبر الخبرات الحياتية الأولى التي ينميها الطفل عن طريق عملية التواصل والتفاعل مع الراشدين المحيطين به من أهم العوامل التي تساهم في تكوين الصورة الأولية لديه عن نفسه ومحيطه. ويضيف الصادق: نلاحظ أن التأثيرات السلبية التي تحدثها الأعمال الإرهابية تقع على صنفين من الأطفال والأبرياء، الأولى هي الفئة التي تعيش الحدث الإرهابي وتكون من ضمن ضحاياه، والفئة الثانية هي الفئة التي تعيش الحدث عن بعد ولكنها تصطلي بآثاره السلبية من خلال ما يعيشه المجتمع بأسره من آثار سلبية لهذه الأحداث الإرهابية المؤلمة، وكذلك من خلال ما تعرضه الفضائيات من صور حية من واقع الحدث أو المستشفيات التي ينقل إليها الضحايا. ويشير الصادق إلى أن الفئة الأولى تتجاوز الصدمة حدود التهديد الشخصي للحياة إلى تهديد الأمن الاجتماعي وتهديد هوية الطفل وانتمائه، مضيفاً إن أول ردود الفعل التي نلحظها على الطفل الضحية في معمعة الصدمة هو الانهيار الذي يصعب استكشافه في البداية وتحديد درجته وذلك لأن مظاهره تتداخل مع مظاهر الحزن والارتباك الشديد وتختفي خلفها فلا يتم الكشف الدقيق عن الداء الذي يدمر ذات الطفل ويحطم شعوره. ومن أهم الاضطرابات التي تخلفها الصدمة وتظهر لاحقاً عند بعض الأطفال اضطرابات القلق العام والتي تسمى باللغة الإنجليزية (General Anxiety Disordu) حيث لوحظ أن كثيراً من الأطفال أصيبوا بهذه النوعية من الاضطرابات حسب بعض الإحصائيات التي وردت من بعض مستشفيات الرياض، والتي تشير إلى أن هؤلاء الأطفال أو غالبيتهم تأثروا تأثراً كبيراً وظهرت عليهم امارات القلق والهلع والخوف. اضطراب كرب ما بعد الحادث.. ويقول الدكتور عبد الله الراشد: إن هناك أنواعاً أخرى من الاضطرابات التي تصيب الأطفال إثر الحوادث والكوارث التي تقع بالقرب منه، كالأحداث التي مرت بها مدينة الرياض بعد تفجيرات مجمع المحيا السكني، ومنها اضطراب الهلع (Panic Disordu) واضطراب القلق والاكتئاب واضطراب القلق المختلط واضطراب كرب ما بعد الحادث، وكذلك استجابة الكرب الحادة واضطراب التوافق ثم هناك الاستجابة الاكتئابية القصيرة ومثيلتها الطويلة واستجابة القلق والاكتئاب المختلط. وأشار الراشد إلى أن هناك اضطرابات موازية تسمى اضطرابات نمائية معينة في الكلام واللغة واضطرابات نمائية محددة في المهارات الدراسية. وعلى الرغم من أنه لم تتضح حتى الآن فيما إذا كان المجتمع السعودي أفرز أمثال هذه الحالات في المدارس الابتدائية خصوصاً إلا أنه لا يمكن الجزم بعدم حدوثه على الإطلاق، خاصة وأن المملكة تنعم بأجواء الأمن على مدى الأعوام والعقود المنصرمة. حالات كثيرة بعد حرب الكويت وحسب ما تناقلته وكالات الأنباء العربية والتقارير التي نشرت بعد تحرير الكويت فإن هناك الكثير من هذه الحالات شهدتها الكثير من الأسر، فهناك أطفال امتنعوا عن النطق نهائياً أو بشكل مؤقت واستمر معهم هذا الأمر لفترة طويلة ولم يستجيبوا للعلاج إلا بعد مضي عدة سنوات. وهناك أمراض أخرى أيضا ًتعرض لها أطفال الكويت مثل التبول اللاإرادي حيث نشرت التقارير أن هناك مئات من الأطفال الذين قتل آباؤهم أو أحد أقربائهم وبالذات أولئك الذين شهدوا الحادثة بأنفسهم، لاسيما إذا كان الحادث مرتبطاً بامرأة (أم أو أخت) وفي تقارير أخرى أشارت أيضاً إلى إصابة بعض الراشدين بأمراض وعقد نفسية مختلفة جراء مشاهدة أعمال عنف يمارسها جنود الاحتلال ضد أقربائهم أو محارمهم من النساء (زوجة - أم - أخت) فما بالك بالأطفال الذين تعجز قدراتهم الذهنية والعصبية عن استيعاب أحداث جسيمة كالإحتلال والعنف. تحصين الأطفال من تبعات الأحداث الإرهابية وحول هذا الموضوع يقول الدكتور عبد الإله الشهري: إنه في بلاد آمنة كالمملكة لا يمكن أن يتكهن الإنسان في الوقت الراهن بمدى خطورة الوضع على الأطفال إذا استمرت مثل هذه الأحداث واستمر عرض مسلسل العنف على الشاشات الفضائية، وفي التقارير التي كانت تبثها الفضائيات إبان حرب الولاياتالمتحدة على العراق قرأنا عن تأثر الأطفال العرب بتلك الأحداث. وأشار الشهري إلى أهمية تحصين الأطفال السعوديين من تبعات الأحداث الإرهابية التي جرت مؤخراً، ففي الوقت الذي تعمل الدولة جاهدة على إيقاف هذه الجماعات عند حدها واقتلاع جذورها وهي قادرة بإذن الله، لا بد في نفس الوقت مع العمل على هذه الجبهة، فالأطفال هم ثمرة الحياة وهم عماد المستقبل ولا بد من العناية بهم ومحاولة علاجهم منذ البداية من الأمراض النفسية والاجتماعية التي قد يصابون بها من جراء ذلك. مسئولية أولياء الأمور مضيفاً إن على أولياء الأمور التأكد من حالات أبنائهم جيداً ومراجعة سلوكياتهم داخل البيت والمدرسة، فإذا شعروا أن هناك حالات رهاب اجتماعي أو خوف غير طبيعي أن يبلغوا الأخصائي النفسي القريب منهم، ففي جميع مستشفيات المملكة هناك تخصصات نفسية ويوجد أطباء سعوديون أكفاء قادرون على علاج مثل هذه الحالات، مشدداً على أهمية هذا الموضوع وعدم التغافل عنه، فمسئولية الأب هناك كبيرة. أطفال المملكة مهددون.. ونفى الدكتور عبد الله القحطاني أخصائي علاج الحالات النفسية المستعصية وخريج كلية متشجان الأمريكية أن يكون أطفال الرياض فقط هم المعرضين لحالات رهاب أو اضطرابات الهلع أو غيرها من الاضطرابات، فمن جهة أطفال الوطن كلهم يشعرون ببعضهم وأنهم متضامنون معهم بحكم الشعور بالهم الواحد والوطن الواحد، فيمكن أن يتأثروا بهم، ومن جهة أخرى فإن وسائل الإعلام تنقل الأحداث أولاً بأول إلى كل بيت، فمن خلال هذه الأخبار يمكن أن تنتقل هذه العدوى إلى نفسية الأطفال أينما كانوا. وأضاف القحطاني زيادة على هذا الأمر إن أطفالاً آخرين في دول أخرى (عربية أو إسلامية) يمكن أن يصابوا أيضاً نتيجة التأثر الإعلامي، ولعل هذا من سيئات العولمة والانتشار الفضائي المذهل. الاضطرابات تظهر في الأحلام والكوابيس وعن اضطرابات ما بعد الصدمة تقول الأخصائية النفسية بمستشفى القطيف المركزي فائزة العلق: إن هذا الاضطراب يحدث عند تعرض الشخص لموقف ضاغط أو لحادث مؤلم يبعث على الشدة النفسية. وتشير العلق إلى أن الشخص (الطفل عادة) يستعيد بعد فترة تلك الأحداث بشكل رمزي في الأحلام أو خبرات بديلة تدل على الصدمة النفسية أو الموقف الضاغط وتعبر عنه أمثلتها الكوابيس والفزع الليلي. وأكدت العلق أن أهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة PTSD)) التوتر والخوف واضطرابات النوم وتجنب المواقف المثيرة أو بعض الأحداث وخاصة تلك الأحداث الشبيهة أو المرتبطة بخبرة الصدمة السابقة. معاناة لفترة طويلة بعد الحرب وتشير تقارير نشرت على الإنترنت أن أطفال الحروب مثل حرب فيتنام وحروب أخرى مشابهة ظلوا لفترات طويلة يعانون الكثير من الأمراض حتى أن بعضهم تواصلت معه إلى فترة الشيخوخة مثل بعض اليابانيين الذي دخلوا الحرب العالمية الثانية وعاشوا ويلاتها، وشاهدوا أصدقاءهم يقذفون في أتون الجحيم. وقال بعضهم إن أحلام الحروب وكوابيسها ظلت تراودهم لفترات طويلة لم يستطيعوا التخلص منها، حتى بعد أن تزوجوا وأنجبوا أطفالاً، وظلت تلاحقهم أينما ذهبوا، وصارت تشكل عقدة وإحراجاً لهم خاصة مع الزوجة والأطفال، وخشية الكثير منهم من أن تنتقل هذه العدوى إلى أبنائهم فتشكل عقدة أجيال بدل أن تبقى منحصرة في جيل واحد، هو جيلهم الذي اكتوى بنار الحرب. تجاوز العقد النفسية إلا أن الأحداث أثبتت أن توقعاتهم في غير محلها حيث لا يخفى على أحد مدى تجاوز الشعب الياباني والألماني عقدة الحرب.. تلك العقدة النفسية التي ظلت تطاردهم لفترة طويلة من الزمن، بسبب الكوارث التي تعرضوا لها من جراء ذلك، وما قدرة الفرد الياباني على صناعة كل شيء وإقحام نفسه في كل الصناعات إلا دليل واضح على هذا الأمر. اضطراب في النوم وفزع ليلي وعن الفئة الثانية من الأطفال الذين يتعرضون لمشاهدة الآثار المدمرة لجرائم العنف والإرهاب عبر شاشات التلفاز، أو عن طريق آبائهم يقول الأخصائي النفسي مصدق الخميس إنها تظهر لدى البعض من الأطفال المدمنين على مشاهدة الفضائيات، حيث تظهر على البعض منهم اضطرابات القلق الذي يأتي في صورة خوف واضطراب في سلوك الطفل. ويضيف الخميس إن الصورة الإكلينيكية أو السريرية تتسم بالشعور الداخلي بخوف غامض يصاحبه التوتر مع اضطراب في النوم وحدوث الكوابيس والفزع الليلي. وقد يعبر بعض الأطفال عن هذا القلق بالشكوى من بعض الأعراض الجسمية كالصداع أو الألم في البطن أو الميل إلى الكحة أو القيء. رسالة الفضائيات وحذر الخميس الفضائيات (العربية بالتحديد) من القيام ببث المناظر ذات الطابع الوحشي أو الهمجي خاصة فيما يتعلق بالعمليات الإرهابية والتفجيرات التي تشهدها البلاد حالياً، أو على الأقل التحذير منها وإعطاء التنبيهات اللازمة للمشاهدين لأخذ الاحتياط من تأثير الأطفال. مشيراً إلى أن رسالة الإعلام في هذا الجانب مهمة جداً في إيصال الصورة بطريقة لا تؤثر على نفسية الطفل. خوف طفولي منشأه العقل الباطن وعبر بعض الأطفال الذين تمكنا من التحدث إليهم ورفض آباؤهم نشر صورهم في هذا التحقيق عن خوف باطني غير معلن في أكثر الحالات حيث عبر مطلق عبد العزيز وهو طفل في العاشرة من عمره عن هذا الموضوع بقوله لقد شاهدت لقطات التفجيرات التي حدثت في الرياض، وشعرت في بعض الأحيان بتقلصات في المعدة ورغبة جارفة للتقيؤ وكثرة دخول دورة المياه (في أوقات تكون معدته غير ممتلئة بالطعام). ويقول جاسم السفر (9 سنوات)بعد مشاهدة صور التفجيرات شعرت كأنني أريد أن أبقى بمفردي لفترات طويلة داخل غرفتي، كما أنني أبكي دون علم ولا أعرف السبب، وكلما جلست أمام الشاشة وشاهدت مناظر القتلى أشعر أن مثل هذا سيحدث لنا، خاصة وأن لي أقارب في الرياض. ويقول مشعل (14 سنة) رغم أني أشعر برجولتي وأحس أنني قوي وعلي أن أواجه الحياة بالمزيد من القوة والثقة بالنفس إلا أن مشاهد تفجيرات الرياض جعلتني أفقد جزءا من هذه الثقة، ولقد تحدث إلي والدي أكثر من مرة أن أبقى على شجاعتي التي عهدها عني، إلا أن لدي شعورا داخليا بأن هذه الشجاعة بدأت تتزعزع (وأصر بأنه ما أخبر والده بهذا الأمر). أما علي أبو خمسين (14 سنة) فقال الإرهابيون الذين قاموا بتفجيرات الرياض وغيرها لا يفرقون بين امرأة ورجل، أو بين طفل وشخص كبير، ولذلك فمن غير المستبعد أن يكون أي شخص منا هدفاً لهم في أي وقت، ولذلك أناشد حكومة خادم الحرمين بعدم التهاون معهم من أجل الحفاظ على الأطفال وعلى الوطن. الفضائيات ورغبة في التميز.. ويقول الإعلامي سليمان الرشيدي: إن إيقاف سيل الصور التي ترد من الفضائيات ووكالات الأنباء يعتبر من الأمور شبه المستحيلة، ولعل الإنسان يلتمس عذراً للفضائيات في عرضها هذه الصور التي نشاهدها خلال الحروب والكوارث، ذلك أن كل فضائية ترغب في التميز وعرض ما لديها من صور غريبة أو نادرة، وذلك من أجل كسب المزيد من الجماهير. وأشار الرشيدي: الى إن هذا الأمر لاحظناه في تفجيرات المحيا، حيث ركزت وسائل الإعلام على صورة الخادمة الأرتيرية التي كانت تعمل لدى عائلة مصرية في نفس المجمع، حيث أصبحت هذه العاملة بطلة من أبطال تفجير المحيا إعلامياً، وعلى الرغم من تحذيرها من عدم نشر صورها إلا أن وسائل الإعلام لم ترضخ لهذا التحذير، وهذا يعتبر منافيا للأخلاق الإعلامية والصحفية التي درسناها في الجامعة وتدرس في الكليات والمعاهد المتخصصة، إلا أن الملتزم بها قليل. وأوضح الرشيدي إن جميع الوكالات ووسائل الإعلام والفضائيات لديها استشاريون نفسيون وعلماء تربية (خاصة في الغرب) وبعضهم متخصص في فن تقنية الصورة بحيث أن كل صورة تبث تقدم لها دراسة عن تأثيراتها السلبية والإيجابية على المجتمع، وبالذات صور الحروب والكوارث، وإن كانت في الصحافة فتعطى القيمة الكبرى لصور الصفحات الأولى والأخيرة، حيث أن القارئ يصطدم بها منذ الوهلة الأولى. هذا ما يحدث في الغرب، فماذا عن القنوات العربية؟ أما بالنسبة للفضائيات فمن المؤكد أن كل صورة تعرض يكون لها من التأثير بحيث أنه لا بد من دراستها قبل عرضها من قبل خبراء في نفس القناة. مشيراً إلى أن هذا ما يحدث في الغرب أما بالنسبة للفضائيات العربية فالظاهر أن حساب المصلحة الشخصية للقناة بالدرجة الأولى هو الذي يؤخذ بعين الاعتبار. تضافر الجهود.. ويؤكد هذا الاتجاه الكاتب عيد الناصر، مضيفاً إن القنوات الفضائية ووسائل الإعلام يكون لها هدف مادي، قبل كل شيء ومن ثم الحصول على أكبر قدر ممكن من المشاهدين للتعاطف معها، إلا أنه لا ينبغي الذهاب لأبعد مدى في هذا الجانب، فوسائل الإعلام لديها أيضاً رسالة ترغب في إيصالها لطبقة الأطفال مفادها زرع الكراهية لديهم اتجاه الإرهابيين وتعريفهم أن هؤلاء يقتلون الأطفال أيضاً، قد تتضمن هذه الرسالة شيئاً من السلبية نظراً لأن تأثيرات الصورة كبيرة، فهذا شأن علماء النفس والأطباء. وأشار الناصر إلى ضرورة تفادي هذه السلبية عبر المزيد من التوعية من قبل كل المعنيين بشأن الطفولة من مؤسسات وأفراد. د. عبدالله الراشد عبدالعظيم الصادق