كتبت في مقالات سابقة أن الوقت مازال باكراً جداً لتولي رجل من أصول أفريقية سدة الحكم في أميركا البيضاء!. بل وقلت في أكثر من مقال إن باراك أوباما لن يترشح حتى كممثل للحزب الديموقراطي في سباق الانتخابات الأميركية التي ستجرى في نهاية هذا العام. وذكرت أن ما يفعله أوباما الآن ليس إلاّ تمهيد لطريق هيلاري كلينتون لتفوز بترشيح الديموقراطيين لمنافسة الجمهوري جون ماكين، الذي أظنه ومن قراءة خاصة جداً، سيدخل البيت الأبيض في كانون الثاني يناير من العام المقبل كرئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية. لكن، وعلى رغم هذه التأكيدات والظنون التي افتتحت بها هذا المقال، سيظل أوباما من وجهة نظري أعظم رجل أسود خدم السود في تاريخ أميركا منذ رست سفينة ماي فلاور على الشواطئ الأميركية عام 1620 مؤذنة بافتتاح مسلسل استعباد الأفارقة. فعلى عكس كل الزعماء السود الذين كان لهم دور ملاحظ في التاريخ الأميركي، جاء أوباما ليتحدث باسم كل مواطني أميركا، الأبيض والملون والأسود، لدرجة أنني أرى أن أحد أسرار عظمته يكمن في قول المرشح الأميركي الأسود السابق للرئاسة جيسي جاكسون ? من حيث أراد انتقاده - إن أوباما ليس أسود بشكل كافٍ عندما يتحدث عن قضايا السود!! جاكسون عندما أطلق هذه الجملة كان يقصد الانتقاص من تأثير ترشيح أوباما للرئاسة الأميركية على وضع السود، لكنه في الحقيقة لا يعرف أن هذا الرجل قد جاوز المرحلة، وبدأ البناء لمستقبل مشرق للسود ستتضح ملامحه بعد 20 أو 30 سنة على أكثر تقدير. في ثمانينات القرن الماضي رشح جيسي جاكسون نفسه كممثل للحزب الديموقراطي، لكنه فشل مرتين في العامين 1984 و1988 بسبب تركيزه الكبير في حملاته الانتخابية على أحقية السود في العيش بكرامة في أميركا!! وأميركا بطبيعة الحال ليست سوداء بشكل كافٍ لتضع من يطالب بحقوق الأقلية، رئيساً على الغالبية البيضاء الأنغلوساكسونية البروتستانتية WASP. كما أن الحديث المباشر عن الحقوق المنقوصة هو تكريس لوجودها وبالتالي زرع الطبقية التي وإن غابت عن الورق ستبقى حاضرة في الواقع الأميركي طويلاً. وقبل جيسي جاكسون، فشل مارتن لوثر كنج في تحرير العقلية الأميركية البيضاء من ترسبات الماضي، لأنه كان يدعو بشكل مباشر للمساواة بين الأميركيين. كان كنج يعيش هذا الهاجس تحت تأثير منطقة من ذاكرته يحتلها قول أمه له عندما كان صغيراً:"لا تشعر أنك أقل من البيض لمجرد امتناعهم عن اللعب معك"!! جاء أوباما متجاوزاً مرحلة مارتن لوثر كنج واليجا محمد ومالكوم إكس وغيرهم من الزعماء السود، الذين شكّل لون البشرة بالنسبة لهم نقطة ارتكاز بدأوا منها كفاحهم ونضالهم لتطهير الوجدان الأميركي من شائبة العنصرية والتمييز العرقي. من يتتبع خطب ومناظرات أوباما يدرك جيداً أن عدم حديثه عن اضطهاد السود في أميركا هو في الحقيقة انتصار لهم وليس خذلاناً لهم، فتجاهله للمشكلة السوداء في أميركا يعني أنه تجاوز المرحلة الداعية للمساواة، على اعتبار أن المساواة تحققت فعلاً، حتى وإن لم يكن الأمر كذلك! فعندما أبدأ في المطالبة بحقوق تتجاوز حقي في العيش بكرامة، فذلك يعني أنني أوتوماتيكياً قد انتقلت للمراحل التي تليها والتي لا يحق لي الانتقال لها إلا عندما أقفل الملفات كافة التي تحتها. حيوية ونجومية وشباب بارك، إضافة إلى ذكائه المفرط، وبرنامجه الانتخابي الذي يدعو إلى التغيير من أجل أميركا كلها، بألوانها وأعراقها ودياناتها كافة، ساعد في تنامي الظاهرة"الأوبامية"، إلى درجة أنه فاز بترشيح ولايات يمثل فيها البيض غالبية ساحقة! دخل أوباما معركة الانتخابات كما كان يدخلها من قبل المرشحون البيض الذين لم يتحدثوا في حملاتهم الانتخابية عبر تاريخ أميركا الانتخابي الطويل عن حاجات البيض ومطالبهم، بمعنى أنه رشح نفسه كممثل لأميركا وليس لأقلية سوداء. وهذا ما سيزرع مستقبلاً في العقل الجمعي لأميركا زهرة تقول إن السود قد ذابوا تماماً في الحلم الأميركي. أوباما بعقليته الفذة نقل السود من موقع المغلوبين الذين طالما طالبوا بحقوقهم المسلوبة، إلى موقع الغالبين الذين استوفوا حقوقهم بالكامل، فصاروا يطمعون في إصلاح المنظومة الأميركية الكبيرة التي تضم تحت لوائها الطيف الأميركي المتعدد الثقافات والديانات والألوان. قبل نحو نصف قرن طالبت السيدة السوداء روزا باركس بحقها في الجلوس في المقاعد المخصصة للبيض في حافلات النقل العام، وعلى رغم أن طلبها هذا قد أودعها السجن في ذلك الحين، إلاّ أن تأثيره على مستقبل السود كان عظيماً. طالبت باركس بحقها في الجلوس في المقاعد الأمامية اعتماداً على أولوية الركوب للحافلة وليس على أي شيء آخر. كانت واضحة في مطلبها الإنساني، الذي لم يكن نتيجة للون بشرتها، لذلك تغيّرت أميركا جزئياً منذ خمسينات القرن الماضي، والآن جاء باراك ليكمل مسيرتها، لكن بشكل أوسع كثيراً من فضاء مقصورة حافلة!... باراك الآن يغيّر من فضاء أميركا بكاملها. لكن على رغم كل ذلك ما زال الوقت باكراً بعض الشيء لفوز رجل من أصول أفريقية بالانتخابات الأميركية. *إعلامي سعودي [email protected]