لم يدر بخلدها يوماً أن سعداً سيرحل بهذه السرعة. لم تتخيل الموت أصلاً، ولم يخطر لها على بال. كان معها شيء من الحق، فسعد لم يجاوز الثلاثين، وزواجهما لم يكمل عامه السادس بعد. لكنه القدر الذي لا يملك أمامه المؤمن إلا الرضا والتسليم. تزوجت سعداً وهو طالب في الجامعة، وكانت هي زميلته في تخصص آخر. عاشا شهوراً من العسل، بل كانت حياتهما الزوجية عسلاً لا تشوبه شائبة. لم يتخاصما إلا ليصطلحا، ولم يفترقا إلا ليتلقيا. كان لطيفاً وديعاً، وكانت تبادله شعوراً رقيقاً يقل مثله عند النساء. كانت تتفنن في إسعاده، وكان يحاول التعبير عن شكره لها في أكثر من مناسبة. أكثر ما كان يعجبه منها شعورها أن ارتباطها به هو أكبر نعمة حظيت بها، فكان يبادلها وفاءً بوفاء، وإحساناً بإحسان. كانت علاقة حب وثيقة، أو هي"المودة والرحمة"كما وصفها القرآن الكريم. انغمس الزوجان في عالم من الحب والشاعرية والمعاشرة بالمعروف. طالما خرجا في رحلات خلوية وغنيا معاً وضحكا معاً وركضا كطفلين معاً. مرة أخرى، لم يكن الموت حاضراً أبداً في وجدان وفاء التي لم تبلغ الخامسة والعشرين، والتي كانت تحب فتاها وفارس أحلامها حباً أسر لبها وملك وجدانها. بعد مرور أكثر من سنة على الزواج، حدثها سعد عن رغبته في طفلة صغيرة، تملأ عليهما حياتهما. لم تستغرب وفاء رغبة زوجها في الإنجاب، لكن استغربت من تعلقه بإنجاب صبية. سألته: ألا تريد غلاماً؟ أجاب: ألسن ألطف الكائنات؟ على الأقل تكون باكورة إنتاجنا أنثى، ثم ضحك الضحكة العفوية التي كانت تزيد تعلقها به. مرت أشهر من دون أن تحمل. بدأ القلق يساور الزوج على رغم أن الأمر لم يطل بشكل يدعو إلى القلق، لكنه قرر أن يذهب وزوجته إلى الأطباء للفحص. دلت الفحوص على أن هناك ضعفاً، وأن العلاج كفيل بإذن الله بحصول الحدث السعيد. استمر العلاج طويلاً، وبذل سعد كل ما لديه من أجل التخصيب والتعجيل بالحمل. كان على أبواب التخرج، ولم يعمل بعد، ولذا كان عليه أن يستدين لمتابعة العلاج. بذل المستحيل لتحقيق حلمه،"ما أعذب الألمْ/ إن حقق الحُلُمْ". وبينما كانت وفاء غير مستعجلة ولا ترى في الأمر ما يستدعي القلق، كان سعد يسابق الزمن ليرى صغيرته التي يلح عليه طيفها. بدأت وفاء تشعر بالحنين إلى الحمل، لتسعد حبيبها في المقام الأول. وذات يوم، لاحظت بوادر الحدث الذي طال انتظاره، فأخبرت سعداً الذي طار بها إلى المستشفى. وبعد إجراء التحليل المعتاد أبصر الرجل كلمة"positive"في نموذج الفحص، فلم يدرك مغزاها أول وهلة، فأخذه إلى الطبيبة الهندية التي هتفت بابتسامة عريضة ولغة عربية مكسرة:"مبروك"! لم يصدق سعد وانقلب إلى أهله مسروراً، لا تسعه الدنيا بأسرها من الفرح. منذ ذلك الحين، أصبح سعد أكثر حناناً ورفقاً بشريكة دربه. أصبح أكثر وفاء لوفاء. وتتابعت الأخبار السعيدة، وحصد سعد شهادة البكالوريوس في تخصص الجغرافيا، وانهمك في البحث عن عمل. أخيراً، وجد الوظيفة: معلم بمدرسة متوسطة في قرية صغيرة، تبعد عن مقر سكناه قرابة70 كم. لم يعبأ بالمخاطرة، فروحه المتوقدة ومشاعره الوثابة كانت تدفعه إلى المغامرة واحتمال الصعاب. دخل سعد مرحلة جديدة من مراحل حياته، وأصبح يتردد على مدرسته، ويعود قبيل العصر إلى بيته محيطاً وفاء بكل الحب والحنان. اصطحب زوجته إلى أسواق المواليد الجدد، وابتاعا كل ما تحتاجه الصغيرة المنتظرة. وذات مساء سألته: ماذا نسمي مولودنا لو كان بنتاً؟ أجاب فوراً: ليان. قالت وقد دهشت لسرعة إجابته: - كان الاسم في ذهنك من قبل؟ - نعم - ولماذا ليان؟ - إنه يجسد الرقة واللين. ابنتنا بضعة منا، ويجب أن تجسد ما فينا من لطف ودعة. وثقلت وفاء، واقتربت لحظة الوضع، وسعد يعد الأيام لقدوم ليان. لكنه كان على موعد آخر، موعد مع الموت، إذ ذهب إلى مدرسته ولم يعد، قضى نحبه إثر حادثة مرورية وهو على بعد كيلومترات من المدرسة. لم يكن وقع الخبر على وفاء أمراً يمكن تحمله، لكن ما عسى أن يفعل المؤمن أمام المصيبة غير الإيمان والتسليم. منذ ذلك اليوم، تغيرت حياة وفاء، عانت كثيرا من شيء يشبه"الثكل"، فسعد كان كل شيء في حياتها، والآن غاب كما يغيب البدر، ولكن بلا أمل بعودته..."وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر". هي الآن محطمة بائسة، أرملة في ربيع العمر... لكن أي ربيع؟ تجلس مع صاحباتها المتزوجات فيتحدثن عن علاقاتهن بأزواجهن، وربما برقت في عينيها الدموع كلما ساقت إحداهن حدثاً عاطفياً أو حميمياً عاشته مع زوجها. تذهب إلى السوق فترى الأزواج يتسوقون أو يتهامسون أو يتناولون العشاء، وهي وحدها تشعر باليتم، وحدها تشعر أنها بلا حب ولا مستقبل. ويهبط الليل، وتخلو كل زوجة ببعلها وحبيبها، وتخلد وفاء إلى مضجعها.. لكن من دون سعد، الذي لا تتصور أن يقاسمها المخدع سواه. تضم الوسادة إلى صدرها وتحدق في صورة الراحل التي تتصدر تسريحتها، وتنخرط في نشيج عميق. تفتح التلفزيون فتشاهد برنامجاً أو فيلماً كان سعد يحبه أو يتابعه فيخفق قلبها وتهيج ذكرياتها وتقوم بتغيير القناة. كل ما في البيت يثير تلك الذكريات... كتبه... أوراقه... ملابسه... حتى القهوة لم تعد تطيق أن تشمها أو تلثمها... لأنها تذكرها بعشقه القهوة بكل أطيافها وألوانها ونكهاتها. كانت تتجنب المرور ببعض المنتجعات التي ضمتهما معاً في يوم من الأيام، وكان مجرد ذكر تلك المنتجعات يحرك لواعج الشوق في أعماقها المسكونة بالحنين. كانت وفاء تعرف أنها تحب سعداً، ولكن لم تكن تعرف أن هذا الحب راسخ في وجدانها، ضارب الجذور في حناياها، ولا يبدو أن الزمن سيقتلع ذلك الشعور أبداً. اجتمع على وفاء وجع الحنين وثقل الحمل، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي وضعت فيه"ليان". تحققت أمنية حبيبها، ولكن بعد رحيله إلى الدار الآخرة. كم كانت تود أن سعداً شهد لحظة الميلاد وسمع الزغاريد وهي تزف ليان إلى الوجود. غير أن ليان أخذت أمها الشابة إلى حياة جديدة، فكت وثاقها، ومنحتها أملاً في الخروج من عزلتها والانطلاق إلى آفاق أكثر رحابة وإشراقاً. أصبحت وفاء ترى في ابنتها وعداً بالتغيير، وتلحظ في ملامحها وعينيها أملاً بقادم أجمل. كثيراً ما كانت تلاعبها، وتناغيها بأعذب الأزجال... ثم وجدت نفسها ذات ليلة تغنيها هذه الكلمات: ليانُ يا جميلة الصفاتِ يا درة في عالم البناتِ يا حلوة رقيقة السماتِ يا روضة طيبة النباتِ يا أروع الظباء في فلاتي يا أجملَ الورود في جناتي أنتِ الربيعُ ينطلقْ أنت الضياءُ يأتلقْ أنت ابتسامة الأفقْ يا عمري يا حياتي تألقي يا بنتَ ذاك السَّعدِ بروحه ذاتِ العلا والجدِّ بهمَّة كهمة الفرندِ بحكمة بعالم من رشدِ بمقلة بضحكة بخدِّ تنسي رزايا فرقة وبُعدِ بك الربوعُ تأتنسْ بك العيونُ تنبجسْ فلتغمري هذا اليبسْ ولتجْمعي شتاتي عاشت وفاء وفية لذكرى حبيبها، وعودها الزمن أن تكون ذكراه مصدر إلهام وأمل، لا بؤس وألم. كانت ليان بطلتها التي أعادت البسمة إلى شفتيها، وأمدتها بإكسير الحياة الذي يحتاجه الضارب في مناكبها وشعابها. كثيراً ما تمتمت شكراً لله أن وهبها هذه الصبية التي لا تكف عن الثرثرة واللهو والضحك، من دون أن تسبب إزعاجاً أو تحدث شغباً. ليان كانت نجمتها الوحيدة"خيمتها الأخيرة، بيد أن أكثر ما كان يسرِّي عنها إذا نظرت إليها طيف أبيها الذي لا يفتأ يومض في قسماتها البريئة. * أكاديمي وصحافي سعودي +