أدركت الياسمينة أنها صاحبة الفضل في بقاء العائلة، وحين ارتحلت سيداتها فيما بعد، أخذت دورها وطالبت بحقها في أن يكون لها رأيها في أمور حياتها. ولكن بقيت تربية ابنها حميدة حكراً على جدة أمي. ولتأمين وريث ذكر بأقصى سرعة، زوج ذلك الصبي في سن الرابعة عشرة من صبية في العاشرة من عمرها. زج بالزوجين الصغيرين في السرير على أمل أن يحصل شيء ما... ولكن، لم يكونا سوى طفلين ينامان، في كل مرة، ببراءة الطفولة. ثم تزوج حميدة مرتين. أولاً من ابنة عمه من الشاوية والتي أبدت طباعاً جفولة وصعبة أدت في النهاية إلى فسخ الزواج بعد أن أنجبا طفلة. ثم مع سليلة زعيم من منطقة الرباط، منحته ذرية وفيرة: خمسة صبيان وخمس بنات! وفي السنوات التي تلت، منحته واحدة من إمائه ابنة وصبيين. كان بإمكانه أن يهنأ بالاً، فقد كانت تركته مأمونة تماماً. عاش حميدة حياة باذخة بفضل المرأتين اللتين سهرتا على راحته، الأمة الزنجية وجدة أمي. فقد عاش بهناء وسعادة وسط زوجتيه المتعاقبتين وإمائه، عاش حياة شراب ومتعة دون أن يقوم بأي عمل. كانت أراضيه الشاسعة بهكتاراتها الألفين تدر عليه ما يكفي لأن يعيش لا مبالياً، غير آبه بشيء. وحدي، من بين أفراد عائلته، كنتُ المدللة والقريبة منه، يعاملني كواحدة من بناته. مات الخال حميدة في سن مكبرة نسبياً، وقد تجاوز بالكاد الستين كان ذلك عام 1991، عشية خروجي من السجن، وقد تحسرت أشد الحسرة لعدم تمكني من رؤيته. كانت أمي يمنى ? عمّار، بنت فدمة، تبلغ بالكاد الثالثة عشرة حينما تزوجت أبي، محمد بن عبدالقادر الذي كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره. ولدتُ بعد ذلك بعامٍ واحدٍ في 4 شباط 1936، في مكناس التي كان والدي في حاميتها. وضعت أمي بمساعدة قابلة فرنسية: وكان ذلك بمثابة ثورة في الأخلاق في ذلك الزمان! بعد ذلك بفترة وجيزة، استدعى الجيش الفرنسي والدي إلى سوريا، فغادرنا إليها. كانت أمي تنتظر حينها طفلاً آخر، أخي فؤاد، الذي ولِد هناك في دمشق. طوال حياتي كنتُ أحلم بالحرية. حينما أغوص في ذكرياتي البعيدة، أرى نفسي تلك الطفلة الصغيرة ذات السنوات الثلاث، الهاربة وحيدةٌ على درب مشمس، بلا هدفٍ، حرّة... كان ذلك في دمشق، عشية الحرب العالمية الثانية، يوم عيد الأضحى، العيد الكبير، احتفاء بذكرى تضحية إبراهيم في العالم الإسلامي. في الصباح الباكر، جاء المرافق يوقظنا ليهيئنا، أخي الصغير فؤاد وأنا، للمناسبة. غسل الرجل وجهينا وألبسنا ورتب هندامنا واعتنى بتربيتنا بانتظار ساعة الذهاب لنطرق باب أهلنا. لحظة دخوله إلى الحمام، وفي نزوة مفاجئة، أسرعت مندفعة وأقفلت الباب من ورائه... بعد أن حُبِس الجندي في سجنه الصغير، وأخي خلف قضبان القفص الذي يلعب فيه، أصبحتُ طليقةً! سحبتُ كرسياً إلى أمام باب منزل العائلة، وتسلّقته لكي أصل إلى المقبض. في غضون بضعة ثوان، كنتُ خارج البيت. سلكتُ الطريق الواسع والمستقيم الذي انفتح أمامي، ومشيتُ ومشيت، سعيدة بتلك اللحظات الساحرة حيث لا شيء يمكنه إيقافي. طبعاً، توجّهت بخطاي إلى المكان الوحيد الذي أعرفه من بين كلّ الأمكنة: ثكنة أبي. استقبلني الضباط المجتمعون على الفطور بحفاوة بالغة. رفعوني فوق الطاولة وألقموني بالسكاكر والحلويات... كم بدت لي الحياة في تلك اللحظات حلوة وسهلة! وفي ثوبي الصوفي القصير، كنت ملكة العيد المتوجة على العالم. إلا أن أبي وصل، حانقاً، مكفهر الوجه، يستشيط غضباً. في البيت، استيقظ والداي في وقت متأخر. أين اختفى المرافق إذاً؟ سمعا الطرق على باب الحمام، وسرعان ما علما باختفائي، فبحثا عني، مذعورين، في كل مكان، إلى حين راودت أبي فكرة القدوم للاستعلام عني في الثكنة. انتهت مغامرتي بشكل مثير للشفقة: فطوال أكثر من كيلومتر من مسافة العودة إلى البيت، ظل أبي يدفعني أمامه وهو يجلدني بأغصان رفيعة رسمت خطوطاً حمراء على جلد فخذي العاريين. دفعت غالياً ثمن هربي. آلمتني لسعات الضربات إيلاماً شديداً. لا بد أن منظري كان محزناً جداً لدى وصولي إلى بيتنا، لأن والدتي بدأت تولول مذعورة لرؤيتي على تلك الحال المشفقة... هذه واحدة من الذكريات النادرة التي أحفظها عنها. ظل ذلك التأديب العنيف والبالغ القسوة محفوراً في أعماق ذاكرتي، وقضيت زمناً طويلاً حتى أغفر لأبي ذلك. مع ذلك، أغفر في النهاية لمن أساءوا إليّ. أنا أسامح ولكن لا أنسى، فالأحداث الأليمة تبقى حية في أعماقي. بأية حال، بحثت في ذلك اليوم الغابر عن الحرية، حرية لم أعرفها قط. الآن أيضاً، مع أولادي الستة الذين أمثل بالنسبة لهم مركز العالم، لا يمكنني أن أكون حرة حقاً. كبر جميعهم الآن، ولكنهم ليسوا كالآخرين، لم يعيشوا حياة طبيعية، ويرتعبون حينما لا أكون للحظة إلى جانبهم كي أعينهم وأستمع إليهم. عام 1940، احتدمت الحرب في أوروبا، واستشعر الفرنسيون بأنهم سيغادرون سورية، وبدأوا يستعدون سراً للانسحاب. أمر الضباط بالانفصال عن عائلاتهم، فوضعنا على متن باخرة لتعيدنا إلى المغرب. كانت أمي، البالغة ثمانية عشر عاماً، حبلى بطفل ثالث، وأصيبت بنوبة برد خلال الرحلة. ستلد عند القبيلة في قريتنا في منطقة أزمور، وسط العائلة، ولكن مضاعفات الداء الرئوي ومصاعب الرحلة على متن السفينة أنهكتها على نحو مريع: ماتت وهي تلد طفلاً لم تكتب له الحياة. عندنا، نحن البربر، تعتبر المرأة التي تموت أثناء الوضع ملاكاً طاهراً، وتزين كعروس، وتلبس بالأبيض، وتزين بالحلي. في مراسم حزينة، غسلت أمي وجهزت وألبست ثوبها العذري. من كتاب"حدائق الملك"، وهو سيرة ذاتية للكاتبة المغربية يلقى رواجاً في معرض الرياض للكتاب