{ يطرح ملحق"آفاق"محور المثقف والتلفزيون، علاقة تقوم على الانتقاء أم الاستسلام لسيل البرامج الجارف؟ يعتبر التلفزيون، بحسب عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو، من أدوات"العنف الرمزي"الذي تمارسه طبقات اجتماعية على بعضها البعض، وأداة رئيسة للضبط والتحكم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة. يرى بورديو أيضاً أن جزءاً من العمل الرمزي للتلفزيون يعبر عن فعل مزدوج المهام، أي يمارس عملية الجذب باتجاه حدث معين، بينما يسعى إلى إخفاء أحداث أخرى. هل يعي المثقف هذا الدور المزدوج - حال مشاهدته الفضائيات - أم يستسلم في دعة لما يبث أمامه؟ بداية، لا يشكل التلفزيون محوراً مهماً لقضاء الوقت ولا تدور حوله حياتنا العائلية. لذا، وعن سبق الإصرار، فقد خصص له مكان غير محوري في المنزل، بعيداً عن مكان المعيشة اليومي، وبعيداً عن الضيوف أيضاً. أذهب إلى مشاهدته عند الانتهاء من عملي اليومي في محترفي، أو عندما أكون قاصدة متابعة برنامج معين أو لمشاهدة الأخبار. قفزت أهمية التلفزيون إلى المقدمة خلال الأحداث والحروب الأخيرة، التي كانت ولا تزال لها علاقة مباشرة بحياتنا اليومية وبهمومنا العامة، ومستقبل أجيالنا. فجأة رصدت ذاتي كما الآخرين، متسمرة أمامه ومجبرة على متابعة صور القتل والتدمير وجرائم إذلال الإنسان و محو منجزاته الحضارية والتاريخية. ظللنا محاصرين بهذه الجرعات من الصور البشعة والأخبار المذلة حتى وقت ابتلاع لقمة الأكل، لحد أصبحت معه كالسم للأذهان وللبدن. همومنا كبرت و تضخمت و نحن نرى أطفالنا يتابعون كل هذا ببلادة الذهن المشوش، و ليس هناك من هو قادر على أن يشرح لهم أو يجيب على أسئلتهم، ماذا يحدث؟ ولماذا؟ لماذا الأطفال يموتون؟ ماذا فعلوا؟ الإحساس بالعجز والتحطم النفسي، هو ما حصدناه بامتياز من متابعتنا للفضائيات خلال سنوات بداية هذا القرن. تعطلت مع هذا الإحساس قدرات إبداعية كثيرة عند مختلف الأجيال، ولم يصمد سوى من تمكن من انتشال ذاته ولملمتها وإبعادها موقتاً ومحاولة النظر إليها بمنأى عن كل هذا التلوث، وتمكين قدراتها الإبداعية من جديد. وليس هذا بالأمر الهين، فلقد أعيد تشكيلنا وكان ما كان، وحفرت أعماقنا بشكل لا رجعة فيه. نحن بحاجة إلى مرآة عميقة جداً لتقنعنا بما نحن عليه الآن وما سيأتي منا مستقبلاً. مع مرور الزمن، برز غياب الصدقية أكثر فأكثر في معظم ما يقدمه لنا التلفزيون بهذا الشأن، و شاهدنا كيف كانت الصور الحقيقية توظف لإلغاء الحقيقة ذاتها، التي كان بإمكاننا الحصول عليها بسهولة عبر"الإنترنت". أما ما يقدم من البرامج الثقافية والفنية في فضائياتنا، التي كان من المفترض أن تسهم بشكل فعال في رفع الذوق العام، فقد تراجعت كثيراً في النوعية، و لم يبق سوى القليل الذي يستحق المتابعة الجادة. ولسنا بحاجة إلى الكثير من الجهد والذكاء لنلحظ مستوى الاستخفاف بعقل المشاهد والهبوط بذائقته البصرية والسمعية والثقافية، واستهجان قدراته الذهنية، على رغم الزيادة الهائلة في عدد الفضائيات خلال السنوات العشر الأخيرة، واتساع قدرة المشاهد على الاختيار. هذه الزيادة و هذه القدرة كان من المفترض أن تأخذ منحى أكثر إيجابية يقابل الانفتاح المفاجئ على العالم و الكم الهائل من المعلومات والمعرفة التي غدت بمتناول الجميع. بعد كل هذا، وتعزيزاً للقناعة والممارسة السابقة، كان لا بد من أن يأتي قرار تحجيم التلفزيون من جديد وإقصائه من التحكم بأذهاننا وحياتنا. واسترجاع قدرتنا على اختيار ماذا نسمع وماذا نرى وماذا نستقبل. في بيتنا، وفي هذه المرحلة، خسر التلفزيون الكثير لمصلحة مجالات أكثر نوعية و صدقية وأكثر احتراماً لعقل المتلقي. مع ذلك، ما زلت أحاول متابعة بعض البرامج التي احتفظت بالنوعية والعمق، مع صعوبة تذكرها وسط هذا الكم، على أمل أن يتحسن الوضع يوماً ما.