الأديب عبدالفتاح أبو مدين صاحب تاريخ ثقافي حافل، وطاقات عطاء متعددة. تجربته النقدية ثرية وفكره الصحافي مميز. أشرف على العديد من الصحف المحلية، مثل"البلاد"و"عكاظ"، وأسس مطبوعات عدة كصحيفة"الرائد"و"أضواء". تولى رئاسة نادي جدة الأدبي لأكثر من 25 عاماً مضت، وموهبته الأدبية لا تزال متوهجة وغنية. أسهم في إقامة المؤتمرات والندوات والعديد من الأنشطة الثقافية في مراحل متعددة من تاريخ الثقافة السعودية. لم ينل منه غياب التعليم الأكاديمي، ولم يقف عائقاً في سبيل تشكيل مكونه المعرفي الثري الغزير، الذي اسهم في تحريك عجلة الثقافة في مرحلة مبكرة من عهد الثقافة المحلية، وشهد لدوره الريادي والفاعل العديد من المثقفين والرموز. من مؤلفاته"أمواج وأثباج"نقد أدبي،"في معترك الحياة"دراسات أدبية ،"تلك الأيام"تجربة صحفية،"الصخر والأظافر"دراسات نقدية،"حمزة شحاتة ظلمه عصره"قراءت تأملية،"حكاية الفتى مفتاح"سيرة ذاتية،"هؤلاء عرفت". من خلال مسيرتك الثقافية الطويلة والمميزة والثرية، كيف تقرأ الحراك الثقافي المحلي في لحظته الآن؟ - تسأليني عن حراك الثقافة، فهي في الماضي كانت على مستوانا من التعليم المحدود، ومع ذلك كانت على قدر الإمكان، ولكنها جيدة في محدوديتها. واليوم تسير الهوينى فهي ليست بارزة، وليست مميزة. وإذا أتيح لها مال وانفتاح على الخارج، وكانت قياداتها شجاعة لا تحكمها الكراسي التي تقتعدها، فإنها ستصبح قوية ومزدهرة، لاسيما إذا شيدت - سوق عكاظ - لتصبح مدينة دولية مفتحة الأبواب لكل الثقافات في القارات الست، سوق موسمية لمدة شهر في السنة في الربيع، وسمح لكل أصحاب المعارف بأن يصلوها بلا قيود معطلة، فإن الثقافة في بلادنا سترتقي، شريطة أن يصلح حال التعليم في بلادنا، وأن يوضع في قيادات التعليم العام طامحون ذوو رأي وعزيمة وقوة، وكانت في قيادات جامعاتنا قدرات كبيرة بشرط ألا يعطل حراكها من وزارة التعليم العالي وأنماط أخرى لا تعين على الارتقاء بالمعارف، وما أكثرها اليوم في أرض الله الواسعة! ودعيني أقول بغير مقاييس، فالثقافة عطاء تكويني مرده التعليم، ثم الحرية في الانفتاح على الآخرين أخذاً وعطاء. هذا هو مفتاح المعرفة، والمفاتيح كثيرة، فقد أشرت إلى قيمة التعليم، ودعم المؤسسات الثقافية: الأندية الأدبية والثقافية وإنشاء مراكز للثقافة، ومتطلباتها لتكون بحق منارات معرفية إذا قدر لها الانفتاح على العالم العربي كله، استدعاء ومشاركات هنا وهناك، وضخ مال يحقق هذا التوسع والانتشار والاختلاط. هذا شيء أساسي إذا كنا نريد أن تكون عندنا ثقافة قيمة وذات قيمة. والركود الثقافي ينشأ من إيقاف الحراك والانغلاق على النفسپفي أي زمن وأي عصر، هذا هو المقياس عندي، بقدر ما يتاح لنا الحراك العام بلا قيود معطلة، وبعيداً عن الفوضى، بقدر طموح قيادات الثقافة وقدراتها وشجاعتها، بقدر هذه المنجزات، تزدهر الثقافة، وتعلو مراكزها ويراهن الوطن على منجزاته غير الشكلية وغير الوهمية وغير معطيات الأحلام وما يلتصق بالذاكرة، فإن كل منجز يحسب للأمة وأيامها ومكاسبها. ماذا تقول عن ظاهرة استقالة رؤساء الاندية الأدبية في الفترة الأخيرة، وما رأيك في آليات تعيين الأعضاء؟ - لعل السرعة كما عبرت من قبل، السرعة التي مارست بها وزارة الثقافة والإعلام تكوين الأندية الأدبية، هو ما نتج منه من استقالات في تركيبة الأندية، لأن الانسجام أساس في التكوين، ولعل هذا الانسجام كان غائباً في أكثر الأندية. والتعيين يكتنفه الخطأ في التقدير وتدخّل فيه العشوائية. والانتخاب: إذا قيّد بمن ينتخب - بكسر الخاء -"أظن أنه سيكون أجدى، فلا يدخل في النادي إلا الذين هم أهل لهذه المسؤولية، عند انتخاب الأعضاء وانتخاب الرؤساء بحرص وحسن اختيار ودراية للذين يتقدمون والذين يختارون، ربما الانسجام في هذه الحال يكون أرجح كفة من التعيين الذي يبنى على مقاييس ليست دقيقة. المتتبع لسيرتك وتجربتك الثقافية يجد أنك احتليت مكانة ثقافية مميزة، ومهام إدارية ونقدية وصحافية في تاريخ الثقافة السعودية، ما سر هذا المكون المعرفي؟ وما مصادره ومرجعياته؟ وفي حال غياب الدراسة والتخصص إلى أي حد تتدخل الموهبة في تشكيل المكون المعرفي والإبداعي للمثقف؟ - أشكر لك هذا الفضل، فأنا نصيبي يسير مما تفضلت به، وأؤكد أن توفيق الله عز وجل هو العطاء الأول والأخير، ثم إن الطموح يدفع بصاحبه إلى الأمام ليحقق له ما يصبو إليه، وأزعم أنني ما زلت طالب علم. وأؤكد أن نصيبي اليسير من المعرفة يصاحبه إرادة لا تركن إلى الدعة ومضيعة الوقت. ولعل الانكباب على القراءة من أسباب العون في محصولي من الثقافة، ولا أزعم أنني أملك مكوناً معرفياً يستحق أن يذكر، لكن توفيق الله وعونه حقق لي شيئاً من طموحي وسعيي، وكما قيل: نهمان لا يشبعان طالب علم وطالب مال، أرجو الله المزيد من فضله عليَّ وعلى الناس، وأؤكد أن السعي والصدق يقودان إلى الخير من الرزاق عز وجل. المرأة السعودية قد حققت مكانة ملموسة في المشهد الثقافي المحلي، في أي مجال أدبي تعتقد أن المرأة قد حققت أثراً إبداعياً بارزاً ؟ - عبر مطالعاتي المحدودة، فإنها أي المرأة في مجال التعليم قطعت شوطاً يحسب لها، ومرد ذلك توفيق الله ثم الإرادة والطموح. وفي الجانب الثقافي، فإن المرأة نجدها في القصة القصيرة وفي الرواية وفي الشعر والدراسات، ومشاركة المرأة في التعليم الجامعي جعل لها مكانة تتجدد في زحام محمود مع الرجل، والمرأة نصف المجتمع، لذلك فهي خليقة بأي مجال ارتقائي نجدها فيه، وهي كذلك تشارك في العمل الصحافي بهمة ونشاط، ونجدها في المجال الثقافي في الملتقيات في الأندية الأدبية وفي مواقعها في الكليات والجامعات، وتسافر خارج الوطن لتثبت وجودها وكفاءتها، فإلى الأمام"يدعم ذلك إرادة لا يفلها الحديد. كيف ترى الواقع النقدي الحالي، وما طبيعته وما نسبة المنهجية والموضوعية فيه؟ وكيف ترى عملية التجديد؟ - الواقع النقدي يتربع عليه الأكاديميون، وبعضهم نجح بجدارة وكفاءة ونراهم يشاركون في الوطن العربي الكبير، وبعض الأكاديميين نجدهم في كل ملتقى، لكنهم مشغولون عن الارتقاء بمعارف قوية فاعلة، وهناك كفاءات لما دون حملة الدكتوراه مستواهم جيد ولكنهم قلة. وأعود إلى القول: إن ضعف التعليم لا يفرز كفاءات مميزة، لذلك فإن البارزين أو أكثرهم الذين درسوا في أميركا وبريطانيا وأوروبا كانوا طامحين، أما جامعاتنا فلا نستطيع أن نستثني منها إلا أقل القليل، والعباقرة قليل في كل عصر ومصر، والتجديد نجده في مصادره وفي المشاركات ما وراء الحدود ومتابعة الزاد من مصادره بأكثر من لغة. وإذا ارتقى مستوى جامعاتنا لتكون عالمية، فيومئذ نفتش عن التميز وكذلك الارتقاء والتطور والتجديد، والذين يكتبون أكثر مما يقرأون، فهؤلاء ليسوا حريصين على الارتقاء في مجالاتهم وتخصصاتهم، والساحة التي أمامنا تنبئ عن القدرات وذلك من محصلات ما نقرأ ونرى. يضطر الكاتب السعودي غالباً للنشر في الخارج، كيف ترى حال الرقابة وما رأيك في طبيعة النشر المحفوفة بالقيود؟ - الرقابة وظيفة ينالها أي متقدم لديه شهادة جامعية بصرف النظر عن مستوى وعيه وبعد نظره، وهؤلاء يسيئون إلى الوطن، لكن الذين يختارونهم لمهمة كبيرة في مراقبة وإجازة الكتب هم المسيئون أكثر، وما زلنا نعاني من ذلك، وأنا ممن يعاني من هذا الانغلاق، وهذا لا يعني أن نبيح كل مطبوعة، ولكن أريد أن يكون في رقابة فسح الكتب أناس أذكياء واعين فاهمين، وهذا نادر. ولذلك فرقابة فسح الكتب تعج بالأميين، حاملي شهادات جامعية في مستوى تعليمنا العام الرديء والمتخلف، وما لم تعالج وزارة الثقافة والإعلام هذا الجانب، فسيظل الحبل على الغارب، وهذا ما جعل بعض المثقفين يطبعون كتبهم خارج بلادهم. ولقد عايشت هذه الحال حين قدمت كتاباً لي نشرته قبل ربع قرن مجازاً من إدارة المطبوعات في جدة، وقيل لي إن موضوعين ينبغي حذفهما لإجازة الكتاب، وأحد الموضوعين عن ارتفاع العمران على المسجد الحرام، بالأمس كان مسموحاً واليوم أصبح ممنوعاً، أما الموضوع الثاني فيختص بأفغانستان، وهذا يمكن التجاوز عن نشره، إذا كان هناك حساسية سياسية تراها بلادنا إن صح ذلك. وأعتقد أن وزير الثقافة والإعلام يستطيع التدخل لاختيار مراقبين متميزين جديرين بشغل مهمات الرقابة، وفسح الكتب التي يمكن التجاوز نسبياً عمّا فيها من آراء لا تسيء "والمراقبة غير مطلوبة في هذا الجانب وممكنة "إذا كان الرقيب على مستوى عال من الوعي في أداء مهمته في هذا المجال. هل ترى أن الثقافة المحلية تعيش حالة اصطدام بأنظمة معينة، ما تصورك عن حرية الإبداع؟ وكيف تقدر المساحة المتاحة لدور الثقافة؟ - الثقافة المحلية في رأيي لا تعيش حالة اصطدام بأنظمة معينة، لأن الثقافة في مسارها المتزن لا تتعرض لشيء من الصدام. أما حرية الإبداع فمتاحة ونقرأها كل يوم في صورها الجيدة المتطورة لا سيما عند الجيل الحاضر البارز والجيد! ودور الثقافة في مجتمعنا رهن بالعطاء الذي يرتفع وينخفض، ربما ينسحب على ذلك تلك المقولة القديمة: الأدب لا يؤكل خبزاً. وصديقي الدكتور حمادي صمود الناقد المميز والمتجدد التونسي يقول:"كل شيء غلا في الحياة إلا الثقافة"، وهو محق في ما قال. وبالمناسبة فإن الشاعر الكويتي عبدالعزيز البابطين ينفق على الثقافة وإشاعتها ما لم ينفق شيئاً منه الكثيرون من أثرياء الوطن العربي، فهو ليس منغلقاً على نفسه في وطنه، وإنما يرحل إلى الوطن العربي ببرامجه ودراسات مؤسسته يصحبه رموز من المثقفين العرب، حتى وصل الأندلس في إسبانيا، وكذلك وصل ركابه الأدبي إلى إيران واحتفى بالشاعر الإيراني الكبير الشيرازي. وفي كل رحلاته يدعو كوكبة من مثقفي الوطن العربي ليشاركوه في إثراء برامجه الثقافية، فليتنا نرى أثرياءها من يحذو حذوه، ولكنهم لن يفعلوا لأنهم ليسوا شعراء، وليسوا مشغولين بالجانب المعرفي البعيد عنهم، وهم أبعد عنه، لأنهم يركضون وراء المال وحبه حباً جماً، فلندعم وما اختاروا. لأن الثقافة ربما تراءت لهم أنها مصدر قلق ومشغلة هم في غنى عنها، والأهم أنها لا تدر عليهم ما يريدون وهو المال، وينحسب عليهم ربما الحديث الشريف: كل ميسر لما خلق له. والبابطين تاجر، لكنه عاشق شعر وثقافة، لذلك فإننا نراه مهتماً بالشأن الثقافي بتواصل وتجدد وإنفاق سخي واهتمام، ولا أقول سوى: أكثر الله من أمثاله في عالمنا العربي، وإن كنت أشك في مثله تضحية بالمال والوقت في عصرنا اليوم.