كان فلوبير يقول:"الكتابة هي طريقي في الحياة"بمعنى أن المبدع لا يكتب ليعيش، بل يعيش ليكتب. وقد أعجبني تعبير قرأته بأن من يدخل الأدب، كمن يتحمّس لاعتناق دين جديد يُكرّس له وقته وطاقته وجهده، فهل دخلتُ عالم الإبداع لأجرّب دنيا جديدة أجهلها، وأجاهر بمعتقدات مُخالفة عمّا نشأتُ عليها؟! كثيراً ما أسأل نفسي في لحظات المصالحة معها... لماذا قررتُ أن أكتب؟! هل لحرصي على اقتحام دنيا تحترم كينونتي كأنثى؟! هل لأفجّر ثورة الغضب الكامنة في أعماقي، تجاه كل ما يرفضه عقلي وينفر منه قلبي؟! هل الغضب الذي يُسيطر على المبدع يجعله يُخرج أدباً ركيكاً مضطرباً؟! ترى الأديبة"فرجينيا وولف أن الغضب مرتبط دوماً بالمرأة الموهوبة، كونها تُصارع بين ما هي عليه، وبين ما يُفترض أن تكون عليه. لكنها تُحذّر من الفن الذي ينتج تحت ضغط الغضب، بأنه سيؤدي إلى خلق فن غير سوي كالطفل المشوه الذي يُولد قبل أوانه. إن مواقف وقعت لي في طفولتي هي التي كانت الشرارة الأولى التي حفّزتني لأكون كاتبة، وأكتب عن المرأة المقهورة، التي لا تستطيع أن تقف أمام عادت مجتمعها، ولا تملك القدرة على اختيار مصيرها الذي تريده، لا الذي يرسمه الآخرون لها. من أين تستقي الأديبة مواضيع قصصها ورواياتها؟! من يختار الآخر؟! هل الأديب يختار مواضيع، أم مواضيعه التي تختاره؟! يُقال بأن كل رواية خدعة، تحاول التظاهر بأنها حقيقية، وأن المبدع يتخفّى في رداء ساحر مستخدماً تقنيات إيهامية مشابهة لمشعوذات السحرة. فالمبدع تُلاحقه صور مدفونة في أغوار طفولته، ويستفزه وجه عابر، ويتفاعل مع تجاربه الحياتية، وتُلهمه المشاهد الساخنة التي تمر يوميّا أمام عينيه. وأنا كغيري من الأديبات، تظلُّ هذه الأشباح تُلاحقني في يقظتي ومنامي، وتندسُّ في فراشي محاولة اختراق جلدي إلى أن استسلم لها في نهاية الأمر وأقوم بتخليدها على الورق. علمتني الكتابة الانضباط. تعودتُ أن أجلس يومياً لأكتب في ساعات مُحددة، فأصبحتُ مثل الجندي الذي يجب أن يستيقظ مبكراً ليقوم بتمريناته الصباحيّة حتّى لا يسمن وتثقل حركته. كما علمتني الكتابة الصدق والشجاعة، فعندما شببتُ عن الطوق وتعلّمتُ كيف أمسك بقلمي جيداً بين أصابعي، وبدأت أعي ماهية الأشياء وأفهم وجوه الناس من حولي، كان أمامي خياران... إما أن أقتل المرأة في أعماقي حتّى أنفي عن إبداعي صفة الدونية المرتبطة بعالم النساء، أو أراهن على أنوثتي وأضع فيها ثقتي، وأجعلها في حالة التحام دائم مع نصي، حتّى وإن أحدث صداماً مُدوّياً داخل مجتمعي! اخترتُ بلا تردد فضح عالم النساء والابتعاد عن رقابة المجتمع. يقول الأديب"هرمان هسه"بأن الأديب لا يملك في غمرة يأسه ملاذاً آخر سوى الأدب، الذي يتمتّع بأكبر قدر من الصدق الممكن. فاليأس والإحباط يدفعان الأديبة إلى سلك طرق غير مألوفة، وهو ما يجعل أدب المرأة انعكاس لأحوال مجتمعها، لتميزه بالصدق الأدبي ومواجهة الحقائق عارية في إطار مغامرات محفوفة بالمخاطر. كما أنه في مجمله أدب ثوري كونه يهدف إلى تغيير الواقع المعاش، لذا يرى بعض النقاد أن خصوصية الكتابة النسوية ستتضاءل مع تقدّم الوعي الاجتماعي. هل قدّمت الأديبة العربية واقعها في قالب مستحدث؟! هذا السؤال دوماً يدور في مخيلتي حين أنتهي من ولادة قصة أو رواية. أشعر بأنني هربت من واقعي بخلق عوالم وهمية كنتُ أحلم بها ولم تسنح لي الفرصة لتذوقها، أو التورّط في مغامرات جامحة لم أملك الشجاعة على تجربتها وأنا في كامل وعيي، مما يُحفزني لا شعورياً على دفع غيري إلى طرقات أردتُ يوماً اقتحامها، أطلق بعدها زفيراً طويلاً، شاعرة بفرحة غامرة تتملكني وأنا أرى بطلاتي اللواتي كتبت بحبر قلمي أقدارهن، يتحررن من القيود المفروضة عليهن من مجتمعاتهن، فأفرح لفرحهن، وأحزن لحزنهن، وأسعد لسعادتهن. وكم من شخصيات صنعتها وأصابتني الغيرة منها، متمنية لو كنتُ في مكانها، وبكيتُ مع ذلك وأنا أودعهن الوداع الأخير مع وضع كلمة النهاية. نعم أحلامي حققتُ بعضها بين دفتي رواية أو قصة، وبعضها ما زالت حبيسة خاطري تٌلحُّ عليَّ أن أحلَّ قيودها هي الأخرى لتنعم بحريتها. أنا ابنة بيئتي، لم تزل التحذيرات التي لقّنتها لي أمي في صغري راسخة في فكري، بحتميّة إسدال أهدابي، حين أتعرّض لموقف يتنافى مع طبيعتي الأنثوية، لذا ما أن أسمع كلمة إطراء تُلهب مشاعري حتّى تتخضّب وجنتاي خجلاً! لكنني أتملّص من تحفظي، وأحسر الخمار عن رأسي، حين أكون في حالة حميميّة مع إبداعي، فأمرح وأرقص مع بطلات قصصي ورواياتي، أمارس ساديتي عليهن حيناً، ومازوشيتي حيناً آخر، وأخرج لساني لموروثاتي الاجتماعية، وأقول لها انظري لقد خلقت نساء قادرات على الوقوف في وجهك ومحاربتك، من دون أن تملكي القدرة على مقاضاتهن أو توقيفهن في مخفر شرطة أو تشويه سمعتهن بين الناس أو حتّى منعهن من أن يعشن قصص حب حقيقية في وضح النهار. أن تكتب المرأة فهذا يعني أنها خرجت عن قبيلة النساء الخاضعات المستسلمات لأقدارهن المرسومة، ونجحت في أن تكتب شهادة عشق خالدة مع ذاتها، فليس هناك أجمل من أن تكون المرأة مخلوقاً استثنائيّاً. * شهادة قدمتها في مهرجان صنعاء الرابع للقصة والرواية.