يقدّم الإسبانيّ أندرس باربا العزلة والوحشة والوحدة التي يعانيها المرء في العالم المعاصر، في ظلّ مجتمع استهلاكيّ يرغمه على ذلك، حيث يتقوقع المرء على ذاته، ينكفئ ليتمكّن من مواجهة أخطار العالم الخارجيّ وذلك في روايته «نيّة حسنة» (ترجمة ناريمان الشاملي، نينوى، دمشق 2011). يقسّم باربا روايته إلى أربعة فصول طويلة: «بنوّة، وهن، ليليّ، ماراثون»... يصوّر فيها الصراعات التي تعيشها الشخصيّات في عالم يمور بالجديد والمختلف في شكل دائم، كما يصوّر الخلافات التي تتعاظم جرّاء سوء الفهم الناشئ عن تقدير خاطئ للأمور. في «بنوّة» تتعرّض ماريا أنتونيا ألونسو لكسر خطير، وهي أمّ وجدّة، تعيش وحيدة في منزلها بعد أن تزوّج أبناؤها؛ «أنتونيو، ماريا فرناندا، لويسا»، تكون الحادثة شرارة لانطلاق الأحداث وإثارة الضغائن من جديد، تسترجع الشخصيّات الكثير من المفارقات المريرة التي كانت تحاول تناسيها، تتّسم الاستعادة بشيء من التحايد، ولا سيّما أنّ هناك فجوة زمنيّة فاصلة، ما يمنح الشخصيّات فرصة للنظر إلى الأحداث التي غيّرت مجرى حياتها بنظرة شبه حياديّة ومن دون بغض أو بحث عن الانتقام. يعرض باربا في هذا الفصل الشروخ العميقة التي تتخلّل العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، إذ يبدي عبر الكسر الناجم عن حادثة طبيعيّة الكسور الكثيرة التي تراكمت، كما يُبدي الكسر الفعليّ الذي تتعرّض له الأمّ تلك الكسور النفسيّة التي لم يستطع الزمن أن يجبرها، ولم تستطع روابط الأمومة والبنوّة أن تمحوها أو تخفّف من وقعها وأذاها، وفي تلك الحالة التي يفترض بالجميع تناسي أحداث الماضي ومآسيه، يعود الحدث الرئيس إلى الماضي، إلى زمن كانت فيه ماريا ألونسو مدير مصنع الحلي، وكان مصنعها قد انتهى بحريق مفتعل مجهول، وبعد أن قضى الحريق على المصنع، وفتّت الأسرة، لازمت ماريا منزلها، ابتعد عنها مَن حولها، أو هي مَن طردتهم، ليظلّ الحريق لغزاً غير مفسّر. في المشفى حيث يزورها الأهل والأصدقاء، يأتي خواكين لزيارتها، يعترف لابنتها بحبّه لماريا، كما يعترف لها بأنّه هو مَن أقدم على إحراق المصنع انتقاماً من أمّها، لأنّها رفضت الزواج به، ويسوق تبريراته غير المقنعة، والتي لم تبالِ الابنة بها كثيراً، لكنّها أوجبت عليها إعادة دراسة تلك المرحلة والتفكير فيها من وجهة نظر مختلفة، لأنّ ذلك الاعتراف يغيّر الكثير من الأمور، ويبدي الكثير من الحقائق. في «وهن» يُبرز صاحب «شقيقة كاتيا» الضعفَ الذي يتسلّل إلى النفس، عبر سرده تفاصيل حياة فتاة مراهقة؛ سارا، تكون حياتها على مفترق طرق، تنتقل من مرحلة إلى أخرى، تكتشف فيها كثيراً من الأمور والدقائق المتعلّقة بجسدها وبالعالم الخارجيّ من حولها، تعيد ترتيب علاقتها مع محيطها انطلاقاً من تمركزها حول ذاتها، تبدأ التفكير والتعامل مع الآخرين بناء على رغباتها ودوافعها، من دون أن تأبه لما يساق حولها، لا تلتفت إلى دعوات أمّها التي تعاني هي بدورها الوهن جرّاء ابتعاد زوجها عنها، وانشغاله بامرأة أخرى، كما لا تلتفت إلى إملاءات والدها، بل تغدو وقحة في تعاملها معه، ما يدفعه إلى صفعها صفعة تسبّبت لها بانعطافة مدمّرة، انعزلت على إثرها، استكملت رحلتها الشاقّة في سعيها إلى أن تكون نباتيّة، بدأت تتوحّد مع الطبيعة، وشيئاً فشيئاً تحوّل سلوكها إلى العدائيّة والتوحّش، انقضّت في إحدى الأماسي على رجل وامرأة تلصّصت عليهما في الحديقة، ثمّ سِيقت إلى مصحّ للمعالجة، وهناك أعادت اكتشاف جسدها وبعض التفاصيل والدقائق فيه، برزت لديها ميول مختلفة تجاه الجنس، على أنّ ذلك لم يساهم في شفائها، بل راكم لديها الوهن الذي تضاعف بعد اكتشافها أنّ صديقتها «أنا» قد وشت للطبيب بما كان يدور بينهما من أحداث ونقاشات. وفي «ليليّ» يتناول باربا حياة رجل في خريف العمر، يعاني العزلة في قلب عالم يمور بالتغيّر والتجديد كلّ يوم، رجل له مكانة معتبرة، لكنّه مقيّد بالكثير من القيود، يتجرّأ إلى مهاتفة أحدهم بعد قراءة إعلان في الصحيفة، يكون المعلن فتى في بداية العقد الثالث من عمره، تنشأ بينهما علاقة غير طبيعيّة، يستميت كلاهما في سبيل إرضاء الآخر، وأثناء ذلك يتبدّى الخلل الكامن في الشخصيّة، والأسباب والدوافع التي تدفعها إلى الانغماس في تلك الحالة بعيداً من الواقع. وبعد كثير من الوقائع يبتعد الفتى ويتركه نهباً لشكوكه، ينهار إثر ذلك آخر خطّ دفاعيّ، تبرز الشروخ أكثر عمقاً وتأثيراً، تتداعى الذاكرة والذكريات وتغمر الأجواء بكآبتها، ليعود إلى الانشطار الذي كان يعانيه، وإلى النفاق بين النهاريّ والليليّ، حيث الشرخ قاتل بين العالمين، ولا جسور تربط بينهما، أو أنّها تبدو واهية جدّاً، فاصلة أكثر منها جامعة. ثمّ يتناول باربا في «ماراثون» علاقة زوجين ببعضهما بعضاً، يبقي الزوج منكّراً ينساق وراء زوجته ديانا وصديقه إرنستو الذي ينضمّ إليه في جريه اليوميّ، يعكس الماراثون علاقة المرء مع جسده، فهو من جهة يشير إلى الجسد كسباق مفتوح لا يمكن أن ترى نهايته، ومن جهة أخرى إلى جسد يسابق نفسه ويجتهد لتنظيم علاقته مع ذاته. كما يعكس سباق الحياة نفسها. يتدرّب الرجل بداية على الركض، ليستهدف بعدها المشاركة في السباق والتفوّق فيه، يغدو مهووساً بالتغلّب على إرنستو، يبتعد عن كلّ ما حوله، ينشغل عن بيته وزوجته ديانا، تطرأ تغييرات جذريّة على حياته، وبعد حوادث متفرّقة على صعيد العمل والمنزل، وبعد ابتعاده عن صديقه، يشارك في الماراثون، وينجح في التقدّم عليه، ظانّاً أنّه حقّق النجاح والتفوّق. تبدو الفصول الأربعة، للوهلة الأولى، بعيدة عن بعضها بعضاً، وأن لا رابط يربط بينها، من حيث امتداد الشخصيّات والمجريات والوقائع، لكنّ العمق الفكريّ والأبعاد الزمانيّة والمكانيّة تظلّ روابط متينة، مرئيّة ولا مرئيّة، تترك للقارئ فرصة الاشتراك في سدّ الفجوات التي يتركها الكاتب عن وعي وقصد. يبرز ما وراء حُسن النيّة في الخواتيم الصادمة للشخصيّات. تشكّل المآسي رابطة موحّدة لأبناء أسرة متداعية. ماريا أبعدت خواكين لأنّها أساءت به الظنّ في حين أنّ نيّته كانت حسنة، وأدّت تلك النيّة نفسها إلى تدميرهما وتدمير الأبناء والأحفاد لاحقاً. خصوصيّة سارا وثقتها انتُهكتا ممَن حولها، وبالتحديد صديقتها أنا التي أساءت فهمها ووشت بها، منطلقة بذلك من نيّة حسنة لمساعدتها على الشفاء والتعافي، في حين أنّها أساءت إليها في شكل كبير. الرجل الذي أبعد صديقه الفتى روبيرتو، لأنّه شعر بأنّه على أعتاب مرحلة مختلفة قد يتعرّض فيها للتهميش من جانبه، وقع رهين وساوسه، ما دفعه إلى طرده، وكيل التهم اليه، ولم يجدِ بعدها الاعتذار ولا التبرير، أساء به الظنّ قبل أن يأتي أيّ فعل، على رغم أنّ روبيرتو كان صادقاً معه وحسن النيّة والطويّة. أمّا مساوئ النيّة الحسنة ومحاسنها، فإنّها تتجلّى في إخبار إرنستو زميله العدّاء بأنّه أفسح له المجال ليتفوّق عليه ويسبقه في الماراثون بناء على رغبة ديانا، إشفاقاً عليه، ومساهمة منه في ترميم علاقته الزوجيّة. يشتغل باربا على المُغيّب والمحجوب والمغضوض عنه الطرف. ويشرك قارئه في اختلاق حبكة خاصّة بعد أن ينتهي من قراءة الرواية، ليلملم شظايا الشخصيّات، والأحداث المتفرّقة، عبر الفصول المنفصلة المتّصلة، ليقف على بعض الأبعاد التي يرمي إليها، ويعيد ترتيب الأحداث وفق الاحتمالات التي كانت والتي كان يمكنها أن تغيّر فيها، وكيف أنّ الأمور كانت تنحو منحى آخر مختلفاً، فقط لأنّ هناك سوء ظنّ أو حسن ظنّ حيالها، يُبرز أنّ النيّة الحسنة قد تسيء وتدمّر في محاولتها الإحسان والترميم.