أعادت الأمسية المفتوحة، التي أقامتها"جماعة حوار"في نادي جدة الأدبي مساء الثلثاء الماضي، في أولى فعاليات محورها لهذا العام"حوار مع شخصية"مع الشاعر الكبير محمد العلي، ذكرى تألق النادي في الثمانينات، لا سيما وقد امتلأت قاعة"أبوداود"بشقيها الرجالي والنسائي بمثقفين ومثقفات لم يحضروا إلى النادي منذ فترة طويلة. وبقدر ما كان الوجود الجماهيري كبيراً تفاعل الجميع في إثارة حوار معرفي وجمالي وفكري مع الشاعر، الذي بدا كعادته متواضعاً وساحراً في شعره وطرحه ومداخلاته الثرية، التي تنم عن رؤية شمولية راسخة لحراك الإنسان في الحياة. بدأت الأمسية بورقة أعدها الناقد علي الشدوي تتناول محطات بيوغرافية في حياته وجمالية في شعره للتعريف بتجربته الطويلة، وقال الشدوي:"إن من يتابع حوارات ومقالات محمد العلي يستنتج أن الشاعر لم ينتم يوماً إلى جمال خارجي، بل إلى شيء أعمق ومطلق، يبحث عن جمال مكبوت في ذاته، ومثلما يمتلك بعض الناس حباً حفياً للعواصف الماطرة، أحب محمد العلي الشعر المحدد والموجه إليه من الحياة". ويسترسل قائلاً: يتكلم محمد العلي عن اللغة وأهميتها للشعر، كما لو كان يقول مع الشاعر رسول حمزتوف:"إن الشاعر الذي يقرر كتابة الشعر ولا يعرف اللغة كالمجنون، الذي يقفز إلى نهر جارف وهو لا يعرف السباحة". وفي الأمسية، التي أدارها الدكتور حسن النعمي، وفي الجانب النسائي أدارته الدكتورة فاطمة الياس ضمن محور جماعة حوار لهذا العام"حوار مع شخصية"، أكد العلي مؤسس مشروع الحداثة في السعودية أن الغذامي في كتابه"حكاية الحداثة"أنكر المرحلة ما اسماها"المكية"، التي ظهر فيها العواد وآخرون ولا يمكن لأحد أن يدعي أبوة الحداثة كمفهوم أو فعلها،"لأنها تتطور وصيرورتها أن تتغير الحياة، وأن يسير الماء الراكد وعلى كل مبدع أن يعطي نشاطاً خاصاً بالحداثة... أما أن يتكلم مدع ما أو ناقد ما بخلقه الحداثة أو يأتي أحد من وراء جدار برلين ويقول بخلق الحداثة فهذا شيء مرفوض"، مضيفاً أن الحداثة لا يمكن أن يصنعها فرد،"لان المجتمع هو الذي يصنعها الطبيب والمهندس والصحافي ووارثوا الجثة الخالدة، كما يقول الماغوط، ونحن وارثوها ولنا مشاركة في الحداثة وهي سير المجتمع كله". وأشار إلى أنه لم يتخذ موقف الحياد، بعد صدور كتاب"الحداثة في ميزان الإسلام":"بل كتبت وكشفت ما فيه من أخطاء، وقد حاولت نشرها في الصحف السعودية ولم استطع إلا في الصحافة الكويتية، شرط أن تصل إلى المملكة ويقرأها الناس، والذي ساعدني في ذلك احمد الربعي، رحمه الله، مع أن الزمن كان مع التيار في تلك الفترة وكان يصعب إحالة الموقف إلى لحظة شعرية". واعتبر أن الغذامي"ناقد من النقاد لا أقل ولا أكثر له ما له وعليه ما عليه، ويجب على الإنسان الاعتراف بأخطائه وتصحيحها، حتى لا يكررها ومن أراد، أن يسجل تجربته وحكايته فعليه أن يكون صادقاً". كلام العلي عن الغذامي دفع بالدكتور عاصم حمدان إلى أن يعلق قائلاً:"أنت قاس هذه الليلة على الغذامي، الذي هو أحد مؤسسي نادي جدة ولا يجب الانتقاص منه بهذه الطريقة". ورد العلي بالقول:"إن كلاً منا أنا أو سعيد السريحي، الذي أراه لؤلؤة لم ير ضوءها الآخرون لتواضعه الرهيب، أو غيرنا يعمل على تجديد المعنى وان يتطور المفهوم". وأكد العلي أن أي مفهوم"يأتينا من الخارج في حاجة إلى تبيئة، كما قال محمد عابد الجابري، ولا بد أن تحدث فيه وتضيف إليه". وفي رده على دور الطائفية أجاب: كلنا سنة أو شيعة علويين أو مارونيين، أخذنا ذلك بالوراثة ومن ولد لأبويين حملا ما يعتقدانه، ولم يأخذها أخذاً فكرياً أوعلمياً أوموضوعياً فانه سيرثها حتماً، وأنا كفرت بهذه الطريقة الوراثية وأنا إلى هذه اللحظة لا أومن بشيء فكري يحركني، ويجعلني أؤدي شيئاً ما من دون أن أقتنع به قناعة علمية". وحول تأثير ريادته على من بعده قال:"التأثير على أي فرد لا يكون إلا جزئياً، وليس هناك مدرسة متكاملة لأي إنسان، وليس هناك رائد بمعنى خالق. هناك مشارك سواء كان محمد العلي أم غيره. كما انه ليس هناك خالق لتيار محدد وربما يوجد رجل عظيم في القرن الواحد، أواقل أوأكثر ولكن كل ما نقصده بكلمة رائد هو أن يكون مشاركاً ومساهماً في البناء، ويقدم خطوة على الطريق وهو كل ما نطمح إليه". وأكد العلي أن كل حركة تجد نفسها منتشرة في الساحة، يحدث لها غرور امتلاك الساحة،"والحداثة مرت بذلك وهو ما أشار إليه الدكتور السريحي، حينما قال: كنا متسرعين... إن ذلك يسمى في الأحزاب الطفولة اليسارية، فكل الأحزاب، إذا انتشرت تمر بمرحلة انزلاق هائل يعرفونها بذلك. ونحن مررنا بمرحلة الطفولة الحداثية، بحيث اعتقدنا أن الساحة ملك لنا وهي ليست كذلك ولا جزء منها. واليوم أفضل من السابق بكثير وأصبحت الحداثة مفهوماً مقبولاً وحياتياً في كل شيء، وتخلصت من طفولتها الحداثية والادعاء والامتلاك. وعرف الحداثيون حجمهم وأصبح كل شيء واضح الآن والوضوح نفسه يعد انتصاراً لها". وفي الأمسية، التي شهدت حضوراً مميزاً، قرأ العلي نصوصاً شعرية، ومنها:"لا ماء في الماء، الحسينية، دارين، هيلا هيلا ، والوجع". شارك في المداخلات فاطمة إلياس، عبده خال، نورة القحطاني، سهام القحطاني، يوسف العارف، علي الشدوي، احمد قران وغيرهم. وفي ختام الأمسية كرم نادي جدة الأدبي الشاعر الكبير محمد العلي.