في حد الحرابة والسرقة حماية لأموال الناس وأمنهم وطمأنينتهم وحقهم في السكون والأمان والراحة في منازلهم وبين أهليهم وأولادهم. كما أن السرقة هي إحدى الجرائم التي يعاني منها المجتمع الغربي، وهي بازدياد مطرد، يوماً بعد يوم بسبب تراخي العقاب، مع أنها كذلك محرمة في كل الشرائع السماوية. ففي الوصايا العشر المذكورة كذلك جاءت إحداها:"لا تسرق". والإسلام وضع شروطاً لإقامة الحد على السارق، وهي تجاوز حد النصاب الذي قدره العلماء، أنه يجب ان يكون أكثر من عشرة دراهم، أي ما يكفي إطعام عائلة في هذا العصر لمدة أسبوع كامل. فمن غير المنطقي أن تقطع يد إنسان سرق ليطعم أهله خشية الموت من الجوع. فالشريعة الإسلامية هي شريعة الرحمة قبل العدل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقطعوا يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً"، وقول عمر رضي الله عنه:"لا تقطع اليد في عذق ولا عام ولا سنة". إن الحدود في الإسلام شرعت من أجل حماية الإنسان الأساسية التي هي النفس والدين والعرض والعقل والمال. والقضاء في الإسلام هو الأساس الذي قام عليه حماية حقوق الإنسان، وهو الحصن الحصين ضد الظلم والعدوان على حقوق الإنسان. وان إحقاق الحق ليس عيباً، والعيش بسلام لا يعتبر رجعية، وإنزال عقوبة الموت بالقاتل ليس تعدياً على حقوق الإنسان، كما يتصور البعض، لأن من أقدس حقوق الإنسان أن يعيش بسلام وأمن في حمى الدولة، لا في الخوف من الخارجين عن القانون. وقد تميز القضاء في الإسلام بوجود ثلاثة أنظمة قضائية هي: ولاية المظالم، وولاية القضاء العام، وولاية الحسبة. ولاية القضاء العام هي التي أنيط بها، وجعل من اختصاصها النظر في قضايا الحدود الشرعية. وان جرائم القصاص والحدود لا تُصدر أحكاماً إلا من ثلاثة قضاة. ومع ذلك فلا يُعد الحكم الصادر منهم نهائياً، بل لابد في جميع الأحوال عرضه على محكمة التمييز التي تدرسه وتدقق أحكامه وتبين رأيها فيه. ويتكون مجلس قضاة محكمة التمييز من خمسة قضاة. حتى ان قرار محكمة التمييز لا يكون نافذاً بالمصادقة عليه في قضايا القتل والرجم والقطع، بل لابد من رفعه إلى مجلس القضاء الأعلى الذي يتألف أيضاً من خمسة قضاة. فالاحكام التي تصدر عن المحاكم التي تطبق الشريعة الإسلامية في قضاياها، خصوصاً في عقوبات القتل، والسرقة والزنا، لابد ان يمر على ثلاثة عشر قاضياً، وهذا بالمفهوم الغربي العصري يعادل عدد هيئة المحلفين في المحاكم الغربية. وبعد، فإن الأخذ بأحكام الإسلام هو إقامة مجتمع إسلامي، عزيز كريم نظيف، آمن، مطمئن، لا مكان فيه للجريمة والفوضى، ولا اعتبار للشذوذ والانحراف والفساد والمنكر والمعصية، وان من مبادئ الإسلام الستر على المعصية الخفية غير المعلنة، ومبدأ درء الحدود بالشبهات، وان تطبيق الحدود يعد زجراً مناسباً للمجرم ولأمثاله في المجتمع، فهو رحمة بالناس عامة. ولقد يحلو لبعض المرتابين من أهل الغرب، وغيرهم ان يصفوا عقوبة قطع الرأس أو اليد أو الرجم والجلد بانها لا تتفق مع المدنية المتحضرة والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلطة. فهؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة ويتناسون فظاعة الجريمة، وآثارها الخطيرة على المجتمع والإنسانية. انهم يتباكون على يد سارق أثيم أو قاتل معتدٍ، أو زانٍ منتهك للأعراض مغتصب، ولا تهولهم جريمة القتل والسرقة والاغتصاب، ومضاعفاتها الخطيرة، واستمرارها وتكرارها. فكم من الأبرياء"نساءً اطفالاً"قتلوا بسبب السرقة أو الاغتصاب! وكم من جرائم اعتداء على الأشخاص وقعت في وضح النهار في شوارع أوروبا وأميركا لنهب ما لديهم من ممتلكات! وكم من أموال اغتصبت! وثروات سلبت! وأناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم ومصدر رزقهم! كل ذلك لا يخطر ببال المشفقين على أيدٍ قليلة تقطع في سبيل أمن المجموع واستقراره. ألا يتساءل هؤلاء: أيهما أهون على المجتمع: أن تقطع يد أو يدان في كل عام وتختفي السرقة، ولا تكاد تقطع يد بعد ذلك، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأرواحهم؟ أم يحبس ويسجن عشرات آلالاف كل عام، ثم لا تنقص السرقة بل تزداد وتتنوع وتستفحل؟ حتى ان الجرائم من سرقة وقتل وبغاء في بلاد الغرب لا يكاد يلاحقها في الطور علم ولا فن ولا سلطة. ثم إن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة، فاسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف. حتى ان الطفل الرضيع يميز غضب والديه ان كانت شديدة أو رخوة. والعقاب الناجع ذلك الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة، كما يحدث الآن في أغلب الدول الغربية. لقد أثبت التاريخ ان المجتمع الإسلامي، عندما طبق الحدود، عاش آمناً، مطمئناً على أرواحه وأمواله وأعراضه ونظامه عهوداً طويلة قبل ان تصلنا القوانين الوضيعة المستوردة من الخارج. حتى ان المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه. ومثالنا على ذلك قصة الغامدية التي أقرت على نفسها بالزنا فأمر برجمها رسول الله"صلى الله عليه وسلم"بعد ان وضعت وأرضعت. إن شدة العقوبة ذاتها رحمة بمن توسوس لهم أنفسهم بالإجرام، حيث تمنعهم تلك الشدة من الإقدام على الجريمة، فتحول بينهم وبين التردي في مهاوي الإجرام. وما قضية القضاء على المخدرات في المملكة إلا مثالاً على ذلك بعد ان شرع حد القتل للمتاجرة فيه وتوزيعه. مع العلم ان تناول المخدر على أنواع في الدول الغربية يعتبر عملاً لا يخالف القانون، طالما انه للاستعمال الشخصي، وبيعه في الشوارع أمر عادي مألوف، حتى بين الشباب القاصرين والأطفال. ان الشريعة الإسلامية هي شريعة الرحمة المنزلة من عند الله عز وجل: كتب ربكم على نفسه الرحمة. فهو الرحمن الرحيم. وشريعة هذا شأنها لا يجوز ان تحمل أحكامها في الحدود على محمل الشدة والقسوة، انما هي رحمة بالناس في مجموعهم، بل وفي حق المجرم نفسه. والنظر إلى أثر الحدود على القلة المجرمة الباغية دون النظر إلى أثرها في المجتمع ككل هو نظر قاصر مقلوب معكوس، لأن العبرة في التشريع بالمصلحة العامة، وليست لمصلحة المجرمين الذين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة، ولم يشملهم عفو من كان هدفاً لجريمتهم أو خلفه في مثل حال القتل. والإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك لتشدده في وسائل الإثبات، ثم انه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات كل هذا تفادياً لإيقاع الحدود، إلا في حالات استثنائية. ويكفي توقيعها في هاتيك الحالات التي يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد يتصور. بل ان تطبيق بعض العقوبات الشرعية كالجلد بأصوله الشرعية أحب كثيراً إلى كثير من العصاة الفسقة الزناة من الحبس في السجون مدة طويلة من الزمن. وهناك العديد من المستشرقين الذين شهدوا بعظمة وسمو الشريعة الإسلامية، أذكر منهم"جيبون"الذي قال:"جاءت الشريعة المحمدية عامة في أحكامها، يخضع لها أعظم ملك وأضعف صعلوك، فهي شريعة حيكت بأحكم منوال شرعي وليس لها مثيل في العالمين". * باحث في الشؤون الإسلامية.