تعاني الصحافة"الإسلامية"من مشكلات عدة تقلص دورها وتضعف تأثيرها. ويمكن فهم طبيعة هذه الصحافة ومشكلاتها من خلال الوقوف على خصائصها و"الأساطير"التي أسست عليها أداءها. هذا المقال محاولة لقراءة الأسباب التي تجعل الصحافة الإسلامية المطبوعة والمرئية والإلكترونية بعيدة كل البعد عن الصحافة كما تعرف مهنياً وواقعياً. هناك في البداية أسطورة المصطلح"الإسلامي". إن إطلاق صفة"الإسلامية"على صحافة ما، يعني تقيدها بمعايير محددة، ويدفع الجمهور والنقاد لمحاسبتها وفقاً لهذه المعايير. ويصعب علينا أن نسبغ الهوية الإسلامية على مطبوعة أو فضائية ما دامت رؤيتها أقل نضجاً أو اكتمالاً من وجهة النظر الإسلامية. يمكن إذن أن نستخدم صفات بديلة مثل"المحافظة"أو"الدينية". كما تغرس الصفة"الإسلامية"في أذهان الجمهور موقفاً مسبقاً من الوسيلة، التي ستوجه خطابها إلى شريحة واحدة فقط متشوقة لهذا الخطاب، وتعزل جماهير عريضة ليست"محافظة"أو لا تجد في الصحافة"الإسلامية"ما يشدها ويلبي حاجاتها للمعلومة والتسلية. قد تسمي الوسيلة نفسها اسماً إسلامياً معلنة عن هويتها بوضوح، مثل"الإرشاد"أو"الإصلاح"أو"الأمة"أو"الرسالة". وللمطبوعة أن تسمي نفسها ما تشاء بالطبع، ولكن أليس الأولى أن تلجأ المطبوعة الإسلامية إلى أسماء ليست بالضرورة ذات طبيعة أممية أو وعظية أو مباشرة؟ لماذا لا يكون اسم المطبوعة"الوطن"بدل"الأمة"، أو"اليقظة"بدل"الصحوة"مثلاً؟ هناك بالطبع مجلات إسلامية قليلة حملت أسماء مختلفة عن السياق التقليدي، مثل مجلة"الأمان"اللبنانية، و"المعرفة"التونسية اللتين صدرتا في الثمانينات وتوقفتا. زاوية الهوية التي تحصر فيها الوسيلة المحافظة نفسها تقودها إلى استشعار أهمية اقتصارها على ما يخدم هذه الهوية، وعدم الاحتفال بالتعددية، أو ما يمكن تسميته"أسطورة النقاء". بما أن الوسيلة تتسم بالطابع الإسلامي، إذن ينبغي ألا تنشر مواضيع تخالف الإسلام، ولا تستكتب كتاباً غير"إسلاميين"، ولا تستشهد بنصوص يشتم منها معارضة سلوك أو مفهوم إسلامي، ولا تجري مقابلة مع مسؤول أو مثقف له مواقف غير إسلامية، ولا تنشر لأديب أو شاعر عرف مثلاً"بالزندقة"أو"الإلحاد"حتى لو كان نصه المنشور جميلاً ومتفقاً مع الإسلام. المشكلة هنا أن الحكم على الشخص أو النص بأنه"إسلامي"غير دقيق، ويختلف حوله القائمون على الصحافة"الإسلامية". مثلاً كادت إحدى المطبوعات أن تمنع نشر لقاء مع الشيخ أحمد الكبيسي بدعوى أن على الرجل"مخالفات شرعية". ينسى هؤلاء معياراً صحافياً مهماً، هو أن إجراء لقاء مع شخصية ما لا يعني تزكيتها شرعاً، ولا قبول الوسيلة الناشرة بكل ما تقول، أو مسؤوليتها عنه. أذكر أيضاً أن نصاً جميلاً"لابن المقفع"منع من رؤية النور في مجلة أخرى، لأن الرجل"عرف بالزندقة"، ونسي هؤلاء أن هناك معياراً إسلامياً هو"الحكمة ضالة المؤمن". لماذا لا أنشر لطه حسين أو للسياب أو لنزار قباني إذا كان النص مناسباً، ولماذا يقيد الصحافي المسلم نفسه بتاريخ صاحب النص أو الشبهات المثارة حوله؟ مرة أخرى، يختلف"الإسلاميون"في الحكم على النص أو صاحبه وفقاً لاتجاهاتهم الفكرية، أو حتى لمواقفهم الذاتية، ولذا فإن القول بأنه:"يمنع من النشر ما يخالف الإسلام"قول شائك، فما هو الإسلامي ومن الذي يحدده؟ هذا يقود الوسيلة الإسلامية إلى استكتاب كاتب ذي اتجاه ترضى عنه وتباركه. مثلاً قد يُستكتب سلفيون فقط في مطبوعة ما، وقد يستكتب"إخوان"فقط في مطبوعة أخرى، وبذلك تتقوقع المطبوعة على ذاتها وتحدث نفسها. هناك صحافة"إسلامية"ترفض هذه الحزبية، وتعلن أنها خطر على الصف الإسلامي، لكنها تمارس العكس تماماً. رئيس التحرير يجب أن يكون عضواً في الحزب، بغض النظر عن مؤهلاته، وإذا انكشف المستور وبان هزال طرحه، يتم التعتيم على ذلك، وربما أزيح عن الواجهة، ونصّب محرر آخر لا يملك من المؤهلات إلا العضوية، وللعضوية منافعها كما تقول أميركان إكسبرس: membership has its privileges. هذا السلوك يخالف نصاً إسلامياً آخر:"إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". ولأن المحرر أو المشرف على قسم ما يفتقر إلى المهنية، فإنه معرض للوقوع في أخطاء كبيرة، وقد يحمل مقص الرقيب ليغتال حروف كاتب معروف لأنه ببساطة لم يفهم مراده، أو حمله ما لا يحتمل. في فضائية إسلامية معروفة تم حذف عبارة"القطط السمان"من برنامج إخباري تحليلي بدعوى أنها عبارة نابية وتشبِّه الإنسان بالحيوان العبارة نقلها البرنامج عن صحيفة"البيان"الإماراتية وتعني أصحاب الثراء غير المشروع. وإذا حدث يوماً أن تولى المطبوعة من لا ينتمي إلى الحزب المصدر لها، فهنا يمكن وضع"شيخ"على قمة هرمها ليمارس ما يشبه"ولاية الفقيه"، أو تأسيس"لجنة شرعية"تشرف على أداء المحرر، وتقوم برقابة سابقة للنشر. هذا يقودنا إلى أسطورة أخرى، هي الهوس"بالشيخ"أو اللجان الشرعية والاستشارية التي تسرف في رسم الخطوط الحمراء، وتفرض مزيداً من المعايير الصارمة على النشر. مرة أخرى، ما الذي يجعل نشر هذه المادة مخالفاً للإسلام؟ وما الذي يجعل هذا الكاتب غير ملائم"إسلامياً"؟ الشيخ لا يمكن أن يكون"بتاع كله"، واللجنة الشرعية لا علاقة لها بالصحافة السيّارة الحديثة. لا يمكن أن يقود الصحيفة أكثر من ربان. هناك رئيس تحرير يتحمل من الناحية المهنية والقانونية مسؤولية النشر، ولا توجد"لجان"تشرف إشرافاً مباشراً على التحرير، وتمارس دور"المغربل"أو"حارس البوابة"الذي يجيز ويمنع. يمكن أن يكون هناك مجلس أمناء أو هيئة استشارية، ولكن في الدوريات العلمية والمجلات المحكمة، وهو ليس مجال الحديث هنا. وأذكر أن رئيس تحرير مطبوعة"إسلامية"طُلبت منه الموافقة على إشراف سابق للنشر من أشخاص عدة، فلما سأل عن السبب كان الجواب:"حتى يكون هناك أكثر من منخل، فلا ينشر شيء إلا بعد نخله من جهات متعددة". نظرية"النخل"هذه تفترض أن الصحافة الإسلامية"قرآن"لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليست الصحافة كذلك في واقع الأمر، وجهات نظر وآراء بشرية تخطئ وتصيب، وقد يكون وقوعها في الخطأ ضرورياً وحيوياً حتى يستثير ذلك النقاش وردود الفعل. من"الأساطير"السائدة أيضاً في الصحافة الإسلامية أن ما ينشر يجب أن يمثل رأي الناشر. أذكر مثلاً أن محرر موقع"إسلامي"يطلب من كتاب الرأي إجراء تعديلات على مقالاتهم، بحيث تكون تجسيداً لرأي الموقع وموقفه الإيديولوجي. لماذا؟ لأن المحرر يرى أن ما ينشر يجب أن يمثل الموقع. هو لا يدرك بحكم المشكلة المهنية لديه أن"الافتتاحية"هي وسيلته الرسمية لإعلان رأيه، وأن عمود الرأي يخص كاتبه فقط، ولا يحق للمحرر التدخل لتعديله وتحويره، ليمثل في النهاية موقفه. وأذكر هنا أن قارئ مطبوعة إسلامية كتب إلى محررها هذا السؤال:"هل كل ما ينشر في مطبوعتكم يمثل وجهة نظركم"؟ فكان الجواب في بريد القراء:"اطمئن، فكل ما ينشر في مجلة... يمثل رأي رئيس التحرير". أسطورة أخرى تنسب خطأ إلى الدين، هي تجنب ذكر أسماء الأشخاص الذين يرد ذكرهم في سياق نقد إنتاجهم. كثيراً ما يرفض المحرر"الإسلامي"نشر نقد موجه إلى كاتب أو مثقف بدعوى"أننا لا ننشر الأسماء"، و"نرفض تجريح الأشخاص". يستند هؤلاء إلى حديث"ما بال أقوام يفعلون كذا"، وينسون في المقابل أن الإسلام علم أتباعه أن يقولوا للمخطئ أخطأت، وللمصيب أصبت، وأن الذي يتصدى لشأن عام كالنشر في وسائل الإعلام يجب أن يُرد عليه باسمه، لأنه أعلن رأيه على الملأ، ولأن النقد يفقد صدقيته إذا خلا من الأسماء ولجأ إلى التعميم. من الأساطير أيضاً"إيثار السلامة"، وعدم الخوض في السياسة. من الفضائيات والمطبوعات من يختار الإعراض عن الشأن العام بالجملة، والتركيز على الجوانب الأخلاقية والإيمانية. هذه أيضاً أسطورة نابعة من رؤى شخصية ومبررات هزيلة. تحفل أدبيات الحركة الإسلامية بعبارات من قبيل أن الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، ولكن"الإسلاميين"في وسائل إعلامهم وقعوا في الفخ العلماني الذي طالما وقفوا ضده، واختاروا إبعاد الإسلام عن الشأن السياسي، أو تناوله باستحياء والمرور عليه مرور الكرام. أخيراً، يسعى القائمون على هذه الصحافة إلى تفادي مكافأة الكتاب على إنتاجهم، موحين إليهم أن مشاركتهم"رسالة"تنتظر الأجر الأخروي. إنها أسطورة"احتسب ولا تكتسب"التي لا تقيم عملاً مؤسسياً، وتؤدي إلى انفضاض الكتاب، واعتماد الوسيلة على الهواة وغير المحترفين. ولا تخلو بالطبع الاتجاهات الصحافية الأخرى من أخطاء ومثالب كبيرة، لكن للصحافة"الإسلامية"تحديداً أكثر من أسطورة، وأكثر من فريضة غائبة. * أكاديمي وصحافي سعودي