نشأت هذه الوليدة السوداء في بيت من بيوتات العرب، أمَة أمينة تقوم بحوائج البيت من التنظيف والخدمة، ما حدا بأرباب البيت بعد إعجابهم بما امتازت به من نبيل الأخلاق وحسن المعاملة، لأن يكافئوها بالعتق، والشعور بالحرية التي لا يدرك قيمتها إلا من فقدها، ومع ذلك تختار هذه الأمة المُكث عند أسيادها بعد عتقها، لأن محبتهم تضرب بأطنابها في القلب، ولن تختار عليهم أحداً من العالمين. وتمضي الليالي والأيام، وتشب إحدى فتيات المنزل حتى يكون يوم عرسها، فتحتاج لمزيد من العناية والاهتمام في الهيئة والهندام، فتلبس وشاحاً أحمر رُصّع باللآلئ والودع، وتريد العروس أن تدخل المغتسل فتضع وشاحها الأحمر، وتأتي حدأة طائر فتلمح هذا الوشاح ملقى على الأرض، وبياض اللؤلؤ على حمرة الجلد صيرته كاللحم السمين، فرحت الحدأة لظفرها بوجبة شهية دسمة، وخرجت العروس من مغتسلها لتُفاجأ بفقدان وشاحها، جالت الشكوك في خواطر أهل البيت، وأشاروا بأصابع التهم إلى الوليدة السوداء، ولإقامة الحجة والبرهان على سرقة الأمة بدأوا بعملية التفتيش، وبدأوا بتجريدها من ملابسها حتى وصلوا إلى قُبلها ففتشوه، مخافة أن تكون خبأت الوشاح فيه، والوليدة تنظر إليهم وقد علاها من الكرب ما لا يعلمه إلا الله، إذ كيف تُتهم في أمانتها وهي تربية أيديهم، ووسط ربوعهم، ولم يعهدوا عليها إلا كل خير. وفي وسط هذه الكربة وهي واقفة قد اطلعوا على عورتها وسوأتها، يلهج لسانها بالدعاء إلى ناصر المظلوم ومجيب المضطر وكاشف الضر، أن يظهر الحق، ويكشف الزيغ، فتُرفع دعوتها إلى السماء ويأتي الفرج من الله سبحانه، وتأتي الحدأة فتقف على رؤوسهم وتلقي الوشاح بينهم، ويظهر للأمة عظيم رحمة الله بعباده، لقد استجابت الأمة على رغم كفرها لنداء الفطرة بخلوص الدعاء للرب، فلم تلتفت إلى الصنم الذي طالما خدمته ورأت أسيادها يعظّمونه، لأنها أدركت وقت الكربة جزماً أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، والتوحيد مفزع أولياء الله وأعدائه، فأما أولياؤه فينجيهم بالتوحيد من كربات الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه فينجيهم من كربات الدنيا، وبلجوء الأمة إلى الرب كان إرسال الطير الذي لا يفقه إلى المكان الذي أخذ منه الوشاح، رسالة من الله للعبيد بعاقبة الظلم، لقد كرهت الأمة ذاك البيت الذي اتهمها بسرقة الشيء الزهيد، وتصحح مفهوم كان غائباً عنها هو أنهم لا يصلحون لنوائب الدهر، بل هم إحدى نوائبه، وما زالت تذكر ما كانت تسمعه عن محمد النبي ص، فرأت هذه الحادثة فرصة إلى أن تتعرف على ما كانت تسمعه، وتنتقل من الخبر إلى المعاينة، قدمت الوليدة إلى العظيم صلى الله عليه وسلم الذي كان مفتوح الصدر والدار لكل غريب، يعلّمه ويهديه، وينقذه من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، فتستجيب الأمَة إلى الدعوة المحمدية، وتنضم إلى قافلة الإيمان وركب المؤمنين، فتختار البيت الذي لا يمكن أن يظلم ربه لأنه كتب العدل على نفسه، وحرّم الظلم بين عباده. ستختار البيت الذي جزماً سيكون لها عند استحكام الأزمات، وترادف الضوائق، ستختار البيت الذي تشرف بخدمته، وتنال بركة المبيت فيه، ستختار المسجد النبوي لتكون خادمة له، وهذا ما يتناسب مع مهنتها قبل إسلامها، فيُضرب لها حفش في المسجد، والحفش البيت الصغير، وتنال بركة جوار مسجد رسول الله وبيته صلى الله عليه وسلم أيضاً، فتكثر الذهاب والإياب على بيت رسول الله لتسمع حديثه، وتكحل ناظريها برؤيته، وتأنس مع زوجاته، ولاغرو أن يكون بيت النبي ملتقى الضعفاء والمحتاجين والمساكين، ويلفت انتباه عائشة تكرار هذه الأمة بيت شعر: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا *** ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني لتسألها عائشة عن خبر البيت، فتسرد خيوط قصتها العجيبة التي تحمل في طياتها رسالة إلى كل مهموم وصاحب بلية، أن تباشير الصباح ونوره لا يكونان إلا بعد ظلمة الليل وسواده، وأن القطر بعد الجدب، والثمر بعد معاناة الزرع وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، وما أجمل بيت شعرها الذي يدل على أن راحة البال وسعة الصدر لا ترتبط بالمسكن الواسع أو المركب الهنيء، وإنما ترتبط بنفس مطمئنة حتى لو سكنت حفشاً. Nwal_al3eeed @ hotmail.com