رمضان شهر الصبر كما سماه رسول الهدى، وفي سنن أبي داود: «صم شهر الصبر»، وفي هذه التسمية رسالة لكل مبتلى ومصاب ومحزون أن يتأمل دروس الصبر في شهر الصوم، إذ إن الصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند غالب لا يهزم، وحصن حصين لا يهدم ولا يثلم، فهو والنصر اخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد. ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأخبرهم أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال: (واصبروا إن الله مع الصابرين)، وجعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)، وأخبر عن نبيه يوسف بأن صبره وتقواه وصلاه إلى محل العز والتمكين، فقال: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)، وأخبر عن محبته لأهله، وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين، فقال: (والله يحب الصابرين)، ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون، فقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). فالصبر ضياء إذا استحكمت الأزمات، وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق، وطال ليلها، فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه، ولا بد أن ينبني عليها أعماله وآماله، وإلا كان هازلاً. كما يجب على المسلم أن يوطن نفسه على تحمل الابتلاءات، وانتظار النتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت بقلب لم تعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كربة، يجب أن يظل موفور الثقة بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها أخرى وأخرى، بل يبقى موقناً بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابها في سكون ويقين (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم). ومن تأمل معاني أسماء الله الحسنى علماً يقيناً وجزماً بأن ما أصابه رحمة من الله به، لأنه سبحانه أرحم على العبيد من أمهاتهم به، وأن ما أصابه عين الخيرة لأن الله حكيم، وما أجمل انتظار الفرج بعد الشدة، وترقب الخير الكثير الذي وعد به الكريم بعد إصابة الشر، ومس الضر ألم يقل سبحانه: (وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، بل والمتأمل لأحوال أمهات المؤمنين، يرى أن هذا الشرف العظيم سبقه ضر وكربة انبلجت عن خيري الدنيا والآخرة، فأم سلمة ترملت بوفاة زوجها، وتضحك في نفسها حين أوصاها رسول الله بالاسترجاع قائلاً: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف الله خيراً منها»، فقالت في نفسها: أي المسلمين خير من أبي سلمة، فأخلف الله لها رسول الله، ورملة أم حبيبة تنصر زوجها في الحبشة، وهي في بلد غربة، فيأتيها البشير بطلب رسول الله الزواج منها، وصفية بنت حيي تقع في الأسر، وهي بنت السيد وزوج السيد، وتغدو أمة بعد الإمرة، فيكون أسرها مفتاح الارتباط بخاتم النبيين. وفي موقف مشابه أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة أن وليدة سوداء لحي من العرب فاعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته فمرت به حدياة (نوع من الطيور) وهو ملقى، فحسبته لحماً، فخطفته، قالت: فالتمسوه، فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، وطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلي، والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة، فألقته، قالت: فوقع بينهم، فقلت: هذا الذي اتهموني به، وأنا منه بريئة، وهو ذا، فجاءت إلى رسول الله فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد، فكانت تأتيني فتحدث عندي، فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ** ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني. إن سبب إسلام المرأة اتهامها بالسرقة، وكذلك البلايا مع أصحابها تنفرج عن المحمود، ويأتي الخير تباعاً كنهر عذب يطفئ حرارة المصيبة، أسأل الله أن يفرج كربات المسلمين، ويقضي حاجاتهم. * داعية وأكاديمية سعودية Nwal_al3eeed @ hotmail.com