صديقي لا يرفع نظره إلى أعلى، فهو دائمًا يتبصر مواطئ قدميه، تراه يقلب بين الحفريات والصخور وتخترق عيناه باطن الأرض، مفتشًا حجارتها، سائلاً نقوشها، يستوحي التاريخ الذي مضى، فقد تخرج في قسم الآثار والمتاحف، وتزوج امرأة تكبره بسنوات، وأصبح حفيًا بكل تراث، بما في ذلك زوجته التي هي جزء من مقتنياته الثمينة، وكلما زاد عمرها زادت أهميتها وحرص على الاحتفاظ بها أكثر، فهو يرى في كل قديم كنوزًا من الأساطير، شاداً بيديه على ما يعثر عليه من آثار. مهنته تفحص الرسوم البالية وقراءة الخطوط الدارسة، تراه فربما أشفقت عليه، وناديت له بطبيب، وهو متكور على الحفر يفتش في ماضٍ رحل، ويستوضح بناء تهدم، ويستفهم نقوشًا أمحت، وخطوطًا انكب عليها يقرأ سطورها. فوجئت به يطرق على بابي بعد المغرب، يترنح فرحًا، وما إن اتكأ حتى انطلق يتحدث عن أنه يعيش في الطائف أمتع أوقات إجازته، وهو مصيف ومهيص، إذ يمضي أيامه مستمتعًا بالسنين الخوالي، مع أن الحاضر يمتعه بكل طيباته لكنه وجد في التاريخ أفقًا ممتدًا، ولذلك فصيفه لم يكن حارًا بل هو برد وسلام على قلبه، والمصاريف التي أنفقها ليست خسارة بل كسب معها المعرفة، وولج من خلال المتعة بوابة التاريخ حين وجد نفسه في البوباة."البوباة بين السيل الكبير ونخلة"في موقع معركة حنين التي كانت في السنة الثامنة من الهجرة وجمعت لها هوازن وأجمعت رأيها على أن تخرج لمحمد، فقد فرغ لها بعد فتح مكة وليس ما يمنعه دونها فلتغزوه قبل أن يدخل عليها بيوتها ومعها ثقيف في عدتها وعتادها ورجالها، وساق معهم أموالهم وأطفالهم ونساءهم رئيس هوازن آنذاك:"مالك بن عوف النصري"وهو ما مقته حكيم هوازن المقدم فيهم"دريد بن الصمة الجشمي"، وكان حينذاك في هودجٍ يُقاد به، قد ضعف بصره وكبرت سنه، ضعيف الحال لا يستفاد من فعله وإنما يستأنس برأيه فسأل : أين أنتم؟ قالوا"بأوطاس: قال"نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا لين دهس، مالي أسمع رغاء البعير وثغاء الشاء وبكاء الصغير، قالوا له : إن مالكًا ساق مع الناس أموالهم وذراريهم فناداه: كيف تسوق مع المقاتلة الضعفاء والأطفال والشاء والنساء؟ قال: أردت أن يقاتل الرجل عن أهله وماله قال: رويعي غنم والله، وهل يرد المنهزم شيء، إنه يوم له ما بعده، فإن كان لك فلن ينفعك فيه إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كان عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم سأل: هل حضرت كعب وكلاب؟ قالوا: لا قال: غاب الحد والجد، ولو كان يوم رفعة وعلا لما غابت عنه من القوم العلياء، يا مالك ما صنعت سوى أن قدمت بيضة هوازن إلى نحور الخيل وسهام القوم، ولكن أرفع الذراري إلى الأعالي، ثم صب الرجال على صابئة قريش، فإن حزتم النصر لحق بك من ورائك، وإن هزمت كان أهلك ومالك في منعة من رؤوس الجبال، ثم تحسر وتأسف على حال قومه، وقال: هذا يوم حضرته ولم أشهده! وانهزمت هوازن ومعها ثقيف ولحق ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة الجشمي فساق جمله ظانًا أن من في الهودج امرأة، فلما أناخه تكشف عن شيخ كبير هو دريد بن الصمة فضربه ربيعة بسيفه في رقبته فلم يغن شيئًا، فقال دريد: بئس ما سلحتك به أمك، خذ سيفي من مؤخرة رحلي فاقتلني به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ واضرب ضرب الرجال ثم إذا أتيت أمك قل لها: قتلت دريد بن الصمة فرب يوم قد منعت فيه نساءك... فضربه فسقط فإذا مؤخرته وبطون فخذيه كالقرطاس من ركوب الخيل عارية، ولمّا جاء ربيعة لأمه تباهى مفتخرًا بقتله دريد فقالت: ويلك أما والله لقد أعتق من أمهاتك الكثيرات. وأغلقت ثقيف عليها أبواب الطائف وحوصرت إحدى وعشرين ليلة، وتفرقت هوازن في الشعاب منهزمين وسيقت السبايا والأموال إلى الجعرانة التي سار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا فأتاه وفد هوازن يقول: يا محمد إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن منَّ الله عليك، فانبرى واحد من بني سعد بن بكر وقال: يا رسول الله إنما في الحظائر خالاتك وحواضنك ولو أننا ملحنا أرضعنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزلنا عندهما لمثل ما ابتغيناك له لرجونا عطفهما، فخيرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذراريهم وأموالهم فاختاروا الذراري على الأموال. ولما عرف مالك بن عوف عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمته لحق به في الجعرانة فأسلم ورد عليه الرسول ماله وأهله وأعطاه مئة من الإبل واستعمله على قومه. واجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أنه الذي يقسم عليهم الغنائم حتى ألجؤوه إلى شجرة خطفت رداءه صلى الله عليه وسلم فقال:"أيها الناس ردوا علي ردائي فو الله لو كان عدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذابًا"ثم قام إلى جنب بعير فنزع من وبر سنامه وجعلها بين أنامله ثم رفعها للناس وقال:"والله ليس لي من الغنيمة ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود إليكم فأدوا الخيط والمخيط فإن الغلول الخيانة على أهلها عار ونار وشنار أقبح العيب يوم القيامة. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من الغنائم فأعطى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والعباس بن مرداس، ولم يعط الأنصار شيئًا فوجدوا في أنفسهم وكثرت منهم القالة حتى دخل سعد بن عبادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن الأنصار يجدون في أنفسهم عليك لما قسمته في قومك وقبائل العرب وليس لأنصارك منها شيء، فقال صلى الله عليه وسلم وأين أنت من قومك؟ قال سعد: ما أنا إلا واحد منهم يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام فأجمع لي قومك يا سعد فقام فيهم صلى الله عليه وسلم يقول: ما مقالة بلغتني وموجدة علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف بين قلوبكم، أجيبوني يا معشر الأنصار، لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، أمن أجل لعاعة من الدنيا تألفت بها أناسًا ليسلموا ووكلتكم لإسلامكم وجدتم علىَّ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم، فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأحفاد الأنصار" ولم نفطن إلا وصوت الإقامة من المسجد المجاور يستعجلنا للحاق بالصلاة فهببنا مسرعين لندرك تكبيرة الإحرام مكبرين في أنفسنا ما أمتعنا به أستاذ الآثار والمتاحف الذي وعدنا بزيارة أخرى. [email protected]