أولوية الحديث عن واقع الإبداع وقيمة المبدع في بلادنا هي أولوية ذات خصوصية، استمدتها هذه البلاد الطاهرة من فكر وحدتها ونشأتها، وأصبغتها بكل ما أمكن من الاعتبارات الحقيقية، وعلى المستويات كافة حتى عهدنا الزاهر اليوم الذي جعل المكاشفة وقوة الطرح الأرضية الخصبة للإبداع، ومن هنا تولد البداية الحقيقية لمفهوم فكر الإبداع. هذا المنطلق هو الذي ظللني، وأنا أحظى بتكريم كلية العلوم الطبية التطبيقية وقسم التكنولوجيا الطبية الحيوية في جامعة الملك سعود في الرياض، بعدما كرمت بحفلة خاصة لي في هذا اللقاء، مقدراً للجميع، وفي مقدمهم مدير الجامعة رجل المبادرات التكريمية للمبدعين، هذه اللفتة الكريمة، ومهيباً بجهود ومواقف عميد الكلية ورئيس القسم، وكل من شرفني بحضور هذا التكريم، وحافظاً لهم كل ذكرى مشرفة في نفسي، ومقدراً لهم عبء المسؤولية التي تركناها كرهاً لا طوعاً في هذه الجامعة، والثقة تتملكني دائماً أن من بها هم بحجم المسؤولية... صادقين، مؤمنين، مخلصين. هذه اللحظة التي عشتها في ذلك التكريم، تُعد من أكثر اللحظات الوطنية صدقاً، وهذا تطلب مني أن أقف أمام الحاضرين متحدثاً بلغة المكاشفة والوضوح، خصوصاً أن الألم يعتصرني ? وهو ألم على قدر الانتماء ? بأن تكرمني كليتي، كلية العلوم الطبية التطبيقية في جامعة الملك سعود، التي أنتمي إليها من خلال عضويتي لقسم التكنولوجيا الطبية الحيوية فيها لأكثر من عقدين من الزمن، يأتي التكريم اليوم بعد أن كرمت على المستوى الجامعي بيد الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ? يحفظه الله ? وعلى مستوى الدولة بوسام الملك عبدالعزيز من يد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ? أطال الله في عمره ? وعلى المستوى العربي من عدد من الجامعات العربية العريقة والمرموقة، وعلى المستويين الإقليمي والدولي في أكثر من محفل دولي، باعتراف عالمي موثق. هذا الألم مصدره أني كنت ولا زلت أنشد الريادة دائماً للقسم الذي أنتمي إليه ولكليتي، وكنت أتمنى لو لمستها من القسم والكلية أولاً، لكن يبدو أن هذا قدر السياسات العربية التي تعتبر الإبداع والتميز مطلباً وظيفياً، ورعايته ضمن مخصصات الراتب الشهري، وتقدير أبنائه ضمن دائرة موسعة من البيروقراطيات القاصمة لظهر الإبداع، والمبنية على اعتبارات بعيدة كل البعد عن حقائق الرعاية المؤسسية للمبدعين من علماء ومفكري الوطن والأمة. إن تجربة الإبداع ورعاية المبدعين على مستوى الدول المتقدمة، تبدأ عادة من قاعدة الهرم، لتقدم المبدع وإبداعه للعالم، وتقدم للمبدع والمميز والمفكر والعالم كل معطيات النجاح، ومقومات التميز، فتنتج حضارة كاملة بذلك، تتميز بالعدالة والقوة... ولكم أن تعرفوا قدر كل أمة بما تقدمه لمبدعيها وعلمائها ومفكريها وما يقدمه هم لها، في علاقة تبادلية، أساسها تكافؤ الفرص، لا تصيّدها لحساب السياسة على حساب المفكر أو المبدع، ليبقى السؤال: ما سبب نجاح هذه التجربة الحضارية في دول العالم المتقدمة؟ الإجابة محددة، تكمن في أن سياسات هذه الدول لا تقوم على فكر الاستنساخ القبلي، ولا على فكر المنصب الوراثي، ولا على فكر خصخصة المسؤولية على نخبة سلطوية تقرر ما تشاء متى تشاء... إنها تقوم على فكر العدالة التي تُعد شبحاً مرعباً لمريدي السلطة التاريخية... وكأن السلطة هي التي تبني التاريخ، وليس التاريخ هو الذي يبني السلطة. لم أكن أريد لكلماتي هذه أن تكون عبئاً جديداً على زملائي أو مدعاة ? لا سمح الله ? لتقاعس أو تشاؤم، ولكن لو جاء التكريم هذا من غير هذه الكلية والقسم، الذي أعتبره قاعدتي العلمية والأكاديمية، لاكتفيت بالتصفيق وتوزيع الابتسامات، ونسج عبارات المجاملة والتبجيل... لكن انتمائي لكليتي وقسمي هو الذي دعاني لذلك، كي أناشد من خلال تلك المناسبة كل المسؤولين وصنّاع القرار في بلادي، كي ينتبهوا لقضايا رعاية العلم والعلماء والمبدعين، إذا ما أرادوا لهذا الوطن الرفعة، ولهذه الأمة الريادة. لقد كان التكريم خير مناسبة، لأرفع بين يدي مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز، برقية ولاء وانتماء لهذه القيادة الفذة، التي تقدر معنى شفافية الطرح، وتأخذ بيد أبناء الأمة، وعلمائها في مقدمهم، نحو التميز والإبداع عبر فرص الاستثمار فيهم لا الاستثمار عليهم. أ.د. المشرف العام على مركز أبحاث الشرق الأوسط للتنمية الإنسانية وحقوق الإنسان