قريباً من نهاية الطريق، تمهل يتلمس بيد واهنة ضعيفة الصخرة خلفه، وهو يتكئ بيده الأخرى المرتعشة بقوة على عكازه الخشبي المصدف، تحسباً من فقدان توازنه بسبب بحصة صغيرة أو انزلاق غير محسوب... ألقى بمقعده على الصخرة وأطلق آهة ارتياح وكأنه فاز بماراثون البلدة، بتهاون أمسك بمنديله يمسح العرق المتصبب على وجهه، يا له من طريق طويل فيه الكثير من الفرح، والاستظلال بالأمل والشوق والمحبة. فعلى رغم الخسارة والربح كان لديه إصرار على تجاوز العقبات والاستمرار للتمسك بالفوز والنجاح في طريق الحياة، نظراً لبداية الطريق أصابته الدهشة وعقدت لسانه، حتى أنه أطلق ضحكة سمعتها نفسه فارتعشت من داخلها لخارجها. ها هو في بداية الطريق، صبي صغير متعلق بذراع والده، يسابقه الخطى نحو المسجد، يضرب حصى الشارع بقدمه الصغيرة، ينظر بإعجاب لوالده. يتمنى أن يصبح مثله بطوله ووقاره. ولكنه بسرعة أصبح أطول من والده واكثر ضخامة، متى وكيف... لا يدري. تبسم فها هو شاب أرعن متباهٍ بسيارته الجديدة، ينهب الطريق نهباً غير عابئ بمخاطر السرعة وإشارات المرور، كأن الموت بعيداً عنه كل البعد، حتى ولو كان قريباً منه، وهو بهذه السرعة المجنونة، فهو في عنفوانه متحدٍ يريد الوصول بسرعة الى أين؟ لا يدري! تبسم بدهشة من نفسه، فهو الآن يخاف بحصة صغيرة او دفعة ريح عليلة تلمس عكازه باعتزاز، فهو الحامي الآن بعد الله. يا لها من حياة فيها الكثير من الخيبات والتحديات، قريباً منه وكأنه معه الآن ذاك القوي صاحب الصوت الجهوري، الآمر بألفاظ صارمة وتعليمات دقيقة لا رحمة وتراجع فيها. يجوب بين مشاريعه العمرانية لا يرضى بالخطأ أبداً، ولا تفارق يده محفظته الجلدية الفخمة السوداء اللون تحفظ أوراقه ومستنداته ودفاتر شيكاته وحوالاته المالية، لا يسمح لأحد من مرافقيه أبداً بلمس شنطته الخاصة، ولكن يحق لهم حمل الخرائط والملفات الخاصة بمشاريعه العمرانية. بعفوية تلمس كيساً بلاستيكياً قرب الصخرة التي يجلس عليها، هو احرص عليه الآن من تلك الشنطة السوداء الفخمة، يحتاج ما بداخله كحاجته للهواء والماء والعكاز، ففي كيسه البلاستيكي دواء الضغط والسكر ودواء آخر للكوليسترول، وشراب عشبي خاص لتهدئة الرعشة غير الإدارية في يديه، وحبوب لتسكين آلامه الجسدية. ازدادت ابتسامته استعراضاً حتى بانت نواجذه، زمن مر من دون تبسم يذكر، ولكنها الحياة تبسط يديك فيها من مرحلة لمرحلة لتترك أموراً وتمسك بأمور أخرى، كان يعتقد ان المال احد اشكال القوة، ففي نمو امواله وتراكمها في البنوك عزاء للنفس، في الوقت الذي تتناقص فيه القوى الجسدية والفكرية وتبدأ في التلاشي. استكان كأفعى فوق الصخرة تحت أشعة الشمس، فشعر بلذة الكسل الذي قلما تمتع به وهو شاب، السؤال المحير الذي راوده في هذه اللحظة، ماذا لو امتد أجله لسنوات اضافية، فماذا يفعل بهذا الوقت والآن اصبح موقعه على هذا الهامش في الحياة، فما من شيء بات يثير اهتمامه لا الكسب ولا الربح ولا دورات الاختلاس والابتزاز ولا صيحات المنتصر ونحيب الجريح المقهور، لم يعد يهمه وهو متقوقع في هذا الهامش سوى ان ينعم بالطمأنينة. ويتلمس ما بقي من المباهج الحقيقية بين أحفاده، فلربما وجد العزاء والقدرة على تقبل الواقع. واقع ينتظره كل من أراد الله له طول العمر. شهرزاد عبدالله - جدة