حتى تصلا الى البحر، كان على هدى وإيفون أن تسيرا كنملتين، واحدة خلف الأخرى. نملتان شديدتا الحذر، إذ كانت الطريق متعرّجة، مواربة، تفاجئ سائقي السيارات بإطلالة المشاة فجأة وبأغصان الأشجار الممتدة بكل اتجاه. "تعالي نقطع الى الرصيف" تسأل إيفون هدى وهي تحاول ان تخلّص شعرها من غصن "عربيشة" تكمّش به وكأنه يريد إضافته الى بقية أوراقه. توقفتا برهة ثم عادتا فاستأنفتا سيرهما، سيل من سيارات فائقة السرعة لا ينقطع لتستدير رؤوس من فيها وتحطّ لمحة خاطفة على المرأتين اللتين كانتا خارقتي الجمال. سمراء وشقراء، فارعة الطول ومتوسطة، تلائمان فصل الصيف ملاءَمة تامة. الشورت أصفر. تنّورة قصيرة زرقاء ذات دوائر بيضاء، تيشرت ابيض، وتنس شوز كل منهما يكاد يرتفع بهما عن الإسفلت. "هل نحن في الاتجاه الصحيح؟" تسأل إيفون بقلق ظاهر. "بحسب الخريطة.." تجيبها هدى وكلها تمنٍّ بأن تعدل صديقتها عن الذهاب الى البحر، فهي قد غسلت شعرها أول البارحة استعداداً لهذه الإجازة. ولم يكن أحد يتصوّر ما تعنيه هاتان الكلمتان "غسلت شعري" سوى المقرّبين منها، غسل الشعر، أي نقعه بالزّيت، ثم غسله بالشامبو، ثم نقعه بزبدة من خلاصة دهن البقر، والشعور بالقرف لمدة ساعة، ثم تشطيفه، ثم دلق عليه كريم آخر عليه يبقى فوق الشعر، ثم تسريحه، ثم لفّ كل خصلة حول اللّفافات وتثبيتها بالدبّوس ثم الجلوس تحت السشوار لمدة أربعين دقيقة، إفلات الخصلات من اللّفائف، أخذ كل خصلة وشدّها بالفرشاة تحت سشوار اليد. هكذا تفرد شعرها الأجعد، تمدّده وتريحه من قوقعته على نفسه، فينسدل على كتفيها ملتمعاً وكأنه الباذنجانة. تدخلان درباً للمشاة وكأنه أكمة، أشجار ضخمة وارفة، ومنازل او بالأحرى فيلل تبدو خالية، تحيط بها الحدائق المهجورة، أكواز التّين الأسود ينتشر بقعاً على الإسفلت، اشجار زيتون، وعشرات من ثمار اللّقطين وكأنها كرات قدم برتقالية اللون لا علاقة لها بالغرسات الخضراء الليّنة التي أنجبتها. انعطفتا في طريق ذي سور عالٍ من كلتا الجهتين وعندما لم تريا البحر ساور الشك هدى. تعاين الخريطة ولا تطمئن. تسيران في الدرب حتى نهايته. وما أن انعطفتا من جديد في طريق ضيّقة حتى رأتا فجأة الخط الأزرق في نهاية أعينهما ولم تغالب إيفون صيحتها وأخذت تركض نحو البحر، تلحق بها هدى وكلّها قلق وتوتّر. لكن الوصول الى البحر لم يكن كما صوّرته العين، صخور شاهقة وأشجار وحصى وصوت الأمواج وقفت تحرست. هل ضلّتا الطريق؟ حيرتهما أعمتهما عن رؤية الفتحة في السور التي كان يدخلها رجل بعد أن أوقف دراجته النارية. تتبّعتاه في حذر لتجدا نفسيهما في حديقة من الصخور تجثم على صدر البحر. زال القلق والتوتر عن بال هدى فجأة وهي تقف امام صخور بيضاء اللون، وكأنها اقلام عملاق تخينة، أو كأنها غرسات من الكاكتوس، بعضها مصقول، خشن، مدبّب ذو سطوح مستديرة كالوجوه الرّحبة بعد ان صقلها الموج بكل عزمه. صخرة ملساء نبتت في وسطها اعشاب صفراء بلون وملمس شعر إيفون. كلما هاجمتها الماء سبحت الأعشاب قليلاً ثم عادت ملساء كما كانت. تحسد هدى إيفون قلبياً على شعرها. تقفان معاً تتأملان هذه الأعشاب بحيرة. ... "تعالي نسير فوق هذه الصخور". "لا... تعالي نختار أين سنجلس". تسرع إيفون الى إجابتها. تسير على التراب الأحمر، حيث اشجار الصنوبر، تلاحظ هدى الصمغ ينزّ من شجرة. تهبطان في درب صغير، يبعد بضع خطوات عن البحر، لتجدا أن الطبيعة قامت بمزج البحر والشاطئ معاً، رقع من البحر زرقاء تتماوج وسط هذه الصخور، ذات مخرج واحد يصلها بالبحر الكبير. تفرح هدى وتتنفّس الصعداء وهي تقول: "السباحة صعبة... بل مستحيلة لا بأس، نتشمّس وننام". "الظاهر أنك مجنونة! نسبح من الشاطئ، فنعوم فوق الحصى والحشائش حتى نصل الى هناك"... تشير إيفون بيدها، تفهم هدى أن هناك معناه البحر منفرداً بمائه فقط وبأمواجه الخفيفة، لا كما هو على الشاطئ يرتطم بالصخور ويتطاير الزبد الأبيض فيضفي عليه صفة الهيجان. "أنا عندي كتاب... أنت روحي اسبحي..." "ولو حضرتك جاية من كندا وحضرتي من لندن مشان نقرأ؟؟" لا لا، عندي حذاء بلاستيك عظيم للسباحة فيك تمشي فيه حتى على النار...". تختار هدى مكاناً تحت الشجر لكن إيفون تريد ان تجلس على شفة البحر. تحت الشمس بعيداً من الشجر، ومن الصخور. تفرشان المناشف. - "أنت روحي قبلي، على كلٍّ اريد ان اسير على الصخور بالأوّل". اندفعت إيفون الى البحر، تعثّرت بالحصى والأحجار الناتئة، جرحت فخذها، لكنّها لم تبالِ، رمت بنفسها على الموج وعامت وهي تخبط بالماء كمن يودّ التأكد بأنها فعلاً في البحر، في المتوسط "إذ كل البحار مزيّفة ما عداه". تريد ان تقضم الماء بين اسنانها من شدة شوقها إليه، تغطس برأسها كالبطّة، تريد ان تدخل الى صالون الماء تزوره بعد غياب طويل، تتذوّق الطعم إياه، البرودة والملح والصمت. ثم تتمطّى بذراعها وكأنها قطّة فوق الماء، ثم تتمطّى باليد الأخرى، تسرع وهي تسبح، تسرع قبل أن يغيب البحر عنها، تعبّ الهواء، تحضن الماء وتزفر، ولم تعد ترى سوى اللون الأزرق مازجاً السماء والبحر معاً، بحر المتوسط هو بيتها، نقطة ارتكازها، تغمض عينيها وكأنها عادت أخيراً من رحلة طويلة. سارت هدى... تصعد من جديد حيث أشجار الصنوبر، ترى الشجرة التي تنزّ بالصمغ وتبتسم للرائحة القديمة في الذاكرة، رائحة حرش بيروت وجدّتها تنحني فوق إبر الصنوبر توقد النار فيهم ثمّ تحثّها على استنشاق دخان الصنوبر حتى تشفى من سعلة الشاهوق. تكمل هدى سيرها فوق الصخور الأخرى التي تحوّلت الى طريق نزهة، إذ أقيم عند طرفيها درابزين من الحديد الرفيع الذي يكاد يكون غير مرئي، الطريق متعرجة وعرة ولكنها رحبة. السراطين تهرب من مخبأ الى آخر. سمك صغير كملقط الحاجبين يكتشف أنه يكاد يصبح في اليابسة فيهرب من جديد الى الماء. تبحث هدى بنظرها عن إيفون وتراها لا تزال في البحر الذي يبدو الآن عادياً لا كمسرح للأهوال والأدغال البحرية كما خيّل لها للوهلة الأولى. تكمل نزهة الصخور هذه الى نهايتها كما يبدو إذ تسدّ طريقها لافتة "ممنوع الدخول، طريق خاصة". شاب وسيم يتكئ على بوابة كبيرة حديدية وهو يرسم شجرة بسرعة مذهلة ينظر إليها ويبتسم، تقفل عائدة من حيث أتت، الى الشاطئ حيث بدت حوائجها عن بعد كأنها تنتظرها وتنتظر إيفون. نباح كلب يستقبلها، تتجاهله هدى وتقترب لتأخذ مكانها فوق المنشفة فيزداد نباحه تحاول العائلة الإيطالية على مقربة منها إسكاته من غير فائدة، إذ لم يتوقف عن النباح والنظر إليها، كأنه أحس بخوفها منه على رغم انه كان مربوطاً بقدم الكرسيّ ... كل ما حولها يريدها ان تدخل البحر. إيفون التي كانت تسبح بعيداً والتي نادتها اكثر من مرة مشيرة إليها بالاقتراب والعائلة الإيطالية، والكلب وبقية السابحين وفي الدرجة الأولى نفسها، حاولت اكثر من مرة ان تندفع بالماء وتعوم فوق الحشائش والحصى "أشبار عدة من الماء" تؤكد لنفسها، لكنها تتلكأ وتجعل الموج يضربها بهذه الصخرة وبتلك، لا بدّ أن الأنظار كلها تحطّ عليها، حتى أنظار النورس الغاضب لأن السابحين كانوا يعيقونه عن الصيد، تناديها إيفون من جديد بصوت مرتفع يمتزج بضحكة، وهدى تنحني شيئاً فشيئاً في الماء وتحبس أنفاسها تحاول ان تحرّك كل عضو فيها من اجل ان تطفو. تسبح وكأنها حشرة "أم اربعة وأربعين". رأسها الذي لفّته بقبّعة من البلاستيك ثم غطّته بقطعة من القماش هو الذي بقي عائماً وكذلك رقبتها. ظلّت متوثّبة، ترصد ما حولهما. تعوم في مكانها، متجاهلة نداء إيفون، تتأمّل البحر والسماء. وعندما لم ترَ إيفون من طرف عينها خبط قلبها. لا بد أن إيفون غاصت تحت الماء من اجل ان تفاجئها، هذا الخاطر لسعها في نقطة ارتكازها فهبّت تغالب صيحة ووقفت وإذا بالماء يغمرها حتى أعلى بطنها. وإيفون مستلقية في البحر على ظهرها وكأنها متمدّدة في سرير. أخذت هدى نفساً للمرة الاولى منذ أن وطئَتْ المياه وقامت بتشجيع نفسها لتغامر وتسبح مسافة قصيرة من مكانها حتى تظل المياه تغمر صدرها فقط. فعلت هذا وهي ما زالت تحبس أنفسها لتشدّ بين حين وآخر قدميها نزولاً متأكدة من أن قدميها لا تزالان تلامسان أرض البحر. تزفر الأنفاس الطويلة المحبوسة وهي تفكّر: "لا بد أن إيفون لاحظت عجزي في الماء، كما ألاحظ أنا مقدرة غيري أو عدمها منذ اللحظة الأولى التي أراهم فيها يغطسون في الماء". كانت هدى تتصنّع الهجوم الى الماء وإحداث كل الصخب وهي مستلقية على ظهرها، الوضع الوحيد التي لا تبدو به وكأنها هاربة من النيران التي أمسكت بطرف شعرها. لكن سرعان ما انكشفت حيلتها. يقترب منها ولدان وأمهما، توشك هدى أن تسألهما الابتعاد عنها، خصوصاً ان الولدين يخبطان اطرافهم بالماء بكل قوة، "لربما دخل الرذاذ المالح عينيّ ولم أعد أرى أمامي، لربما فتحت فمي كردّ فعل وبلعت الماء وخفت من الغرق وارتبكت وغرقت؟ خطط ترصد حواسّها، تبتعد عن الولدين وقد أقفلت فمها جيداً وكأنه "شنطة يد". تستعد لأية حركة، الأم تترك الولدين، يتجهّم وجه هدى، تطلب من الولدين الابتعاد، كيف تشرح لهما، هي المرأة التي تكاد تكون بعمر أمهما انها ستغرق اذا لمسها احدهما. تحاول ان تخيفهما قائلة بأنها رأت قنديل البحر، وفعلاً نجحت خطتها وسبحا الى الشاطئ. ليعودا بعد لحظات ومعهما سطل يبحثان عن قنديل البحر، اشارت بيدها بعيداً، ثم خافت ان يبتعدا ويغرقا لكنهما أخذا يلعبان وكأنها غير موجودة. كأن المياه ثقيلة أم ان رأسها الخائف من الماء هو الثقيل. أم ان أذنيها مسدودتان، تقرر الخروج من الماء، لكن إيفون المتجهة صوبها تعيدها فتزيد هدى من سرعتها وهي تسبح متصنّعة بأنها أعطت نفسها للبحر تماماً ثم استلقت على ظهرها على رغم ان قدمها ما زالت كميزان الحرارة، تتأكد من أن الأرض لم تغر عميقاً، ما زالت على استعداد لتتلقى قدميها متى شاءت. - هل أنت طرشاء؟ ناديتك اكثر من مرة.. الظاهر انك تحبين السباحة في شخاخ الأطفال". - أنا عطشى... تبدّل هدى الموضوع. - وأنا جائعة... الخروج من البحر كان اصعب من دخوله، أهذه حصى كبيرة تنام تحت الماء أم انها صخور قذفتها الأمواج وصقلتها؟ تحاول هدى السير متظاهرة بالطمأنينة والراحة لتجد نفسها ترتطم بالصخور... * من رواية "امرأتان على شاطىء البحر" وتصدر قريباً عن دار الآداب.