يذهب الموسرون في رحلاتهم الصيفية إلى بلاد الله وأقطارها الواسعة.. يهربون من اللظى والهجير إلى حيث الاستبراد، والاستظلال، وهذا من حقهم.. ولكن هناك أناساً تحول بينهم وبين رحلة الصيف ظروف الحياة، وخصاصة العيش، فلا يجدون مفرا من البقاء في اللظى والهجير، يحتمون بالمكيفات من غائلته لحظات من نهارهم، ويسيرون تحت لهيب الشمس احياناً أخرى، والحديث عن الحر في بلادنا حديث قديم، ووصف شدة الحر قديم أيضاً، هذا قبل أن يضاعف حرنا ما يضاعفه من تلوث، ومن حرارة العوادم، ومكائن التشغيل، والخطوط المزفتة، والمباني الاسمنتية، والتي ضاعفت من شدة الحر وقسوته، ومن ذرات الاشعاع التي تخلفها قذائف المحتلين المنضبة في سمائنا، والتي لا يدرسها أحد، ولا يهتم بها أحد، إضافة إلى سنين القحط، والجفاف. وللشعراء الاقدمين أحاديث وقصائد كثيرة في وصف شدة الحر وقسوته يقول الشنفرى: ويومٍ من الشّعرىِ يذوبُ لوابُه أفاعِيه في رمضائِهِ تَتَململُ فهو يصف هذا اليوم من أيام نجم الشعرى بشدة الحر وجهنميته، وإلى ان عطشه يذوب مع ترابه، وأن الافاعي تخرج من جحورها من شدته، فتراها تتململ، وتتقلب في الرمضاء، ربما إلى درجة الموت.. أما شاعر الصحراء الملهم "ذوالرمه" فهو يصف الحرباء، وقد خرجت من جحرها الذي تحول إلى فرن، وقد همدت فوق صخرة، وخشعت، وصلبت يديها كشيخ هندي هزيل أشيب قد خشع ومد يديه مصلوباً في ذلة واستسلام. كأن حَرءباءَها في كل هاجرةٍ ذو شيبةٍ من رجالِ الهندِ مصلوبُ ونراه تارة أخرى يصف شدة الحر وصفاً رائعاً، حيث جعل الكائنات المتنافرة تلجأ إلى ملجأ واحد تتبرد فيه، وهو جحر الضب، حيث دخل العصفور والهوام الأخرى إلى هذا الملجأ الخطر من شدة الشمس الصالية، فيقول: تَجاوزتُ والعصفورُ في الجحرِ لاجئٌ معَ الضَب والشقَذاَن تسمو صدورها (الشقذان هي الحرباء...) ومن الطرائف أن أحدهم دعا على شخص يقال له هارون، فلم يجد أشد عذاباً على هارون هذا من أن يسير في الصحراء حافياً فقال : ألاَ ليتَ هارونَ يسافرُ حافياً وليسَ على هارونَ خُفّ ولا نَعلُ ومن المفارقات العجيبة أن بعض الكائنات تستغل هذا الصيف اللاهب لحظة استبرادها كحية بني العنبر - وهم قبيلة كانت تسكن قريباً من الدهناء - فهي إذا اشتد الحر ووهج الشمس تقف كالعصا، وترتكز على ذيلها، كي يطرقها الهواء، فلا الجحر الذي تحول فرناً يحرقها، ولا الرمضاء تشويها، وهي تستغل وقوفها وثباتها حيث تظن بعض الطيور أنها عود، فتقع فوق رأسها للاستبراد، وما أن يقع الطير حتى تلتهمه.!! أما بعض الاعراب فإنه قد اكتشف طريقة للاستبراد فقد سئل أحدهم ماذا تفعل إذا اشتد بك الصيف والتهبت الأرض..؟ قال: أسير ميلاً أو ميلين حتى إذا تصبب جسدي عرقاً، وتبللت ثيابي من شدته، نصبت عصاي إلى جنب عود، أو غصن شجيرة، ثم نشرت فوقها عمامتي، واستظللت في ظلها، فيطرقني الهواء بنفحاته، فأحس من البرودة شيئاً لا أجده حتى في إيوان كسرى..!!