تفتق ذهن أحد المحامين عن ضرورة معاقبة الزوجات والفتيات الهاربات من بيوت آبائهن حتى يصبحن"نموذجاً"يمنع كل من تسول لها نفسها بمجرد التفكير في"الهروب من المنزل"وطالب - حماه الله وأكثر من أمثاله - بضرورة تعزيرهن علناً، أما السبب فهو لاحتواء هذه الظاهرة التي باتت هاجس كل أب وكل زوج! أما التفكير في السبب فلم يشغل باله كثيراً، لأن الجانب المهم لديه هو تغليظ العقوبة وتشديدها، أما البحث عن الأسباب التي قد تدفع زوجة أو ابنة أو ابناً أو خادمة للهروب"فليست مشكلته"! لماذا تهرب بنت من بيت أبيها؟ سؤال مؤلم وإجابته"أكثر إيلاماً"، الطبيعي أن أحداً لن يقدم على هذا الفعل إلا بعد أن يكون استنفد كل الطرق المنطقية والإنسانية لعلاج المشكلة، خصوصاً وهي تعلم أنها ستكون في نظر المجتمع آثمة، لكونها أنثى"هربت بالطبع لسبب مريب"، وليس لأنها فقدت القدرة على التحمل وتخشى أن يتدخل الشيطان فيحدث ما لا تحمد عقباه. تعمدت أن أغمض عيني وأتقمص قصة من القصص المأسوية التي أعرفها وأعايشها يومياً وجدت نفسي أسأل: لماذا أهرب من بيت أجد فيه إنسانيتي لا مجرد بيت يؤويني؟ لماذا أهرب من والد يحتويني حضنه الدافئ وصوته الحنون؟ لماذا أهرب من أم تفهمني وتستوعبني، وأستطيع التحدث معها في كل ما يشغل بالي، تفرج لفرحي وتحزن لحزني؟ لماذا أهرب من بيت يستأذنني قبل زواجي ويقف بجانبي ليمدني بالدعم والثقة؟ لماذا أهرب من بيت يفتخر ساكنوه بي عندما أتفوق ويدفعني دفعاً إلى الأمام؟ لماذا أهرب من بيت، حقوقي الإنسانية فيه محفوظة، فلا أخ يستطيع التعدي لفظاً أو فعلاً لمجرد أنه ذكر؟ لماذا أهرب من بيت لا أحرم فيه من أمي لمجرد أن أبي"جدد فراشه"؟ ولماذا أحرم منها وأضطر إلى أن أتحمل قسوة زوجة أبي الجديدة التي دخلت البيت بمهمة رسمية هي"تحطيمنا"؟ لماذا أهرب وأنا أجد أبي يدافع باستماتة عني وعن إخوتي، ويمكّنني من زيارة أمي والحديث معها؟ لماذا أهرب وأبي يعدل بيننا في كل شيء حتى في القبلات والنظرات والتشجيع؟ لماذا أهرب وأنا أعلم أنني لن أجد سوى المجهول في الخارج؟ لماذا أهرب وكرامتي محفوظة ولست محرومة من شيء؟ لماذا أهرب وأخطائي المتوقعة نظراً إلى صغر سني تقابل بنقاش هادئ ونظرة عتاب تعيدني إلى صوابي وتوضح لي ما غاب عني؟ لماذا أهرب وأنا أضع رأسي يومياً على وسادتي وأنا مطمئنة إلى أن أبي وأخي هما أحرص الناس على حرمة جسدي؟ لماذا أهرب بعد كل هذه النعم؟ تعودنا منذ نعومة أظافرنا أن نسمع من جداتنا وهن يوجهن أمهاتنا"أن تضع قرن فلفل حار"في فم كل من يكذب أو تكذب حتى يتوب وتتوب عن هذه العادة السيئة مهما صغر سنه أوسنها، لم يكلف أحد نفسه بالإجابة عن السؤال الآتي: لماذا يكذب الطفل؟ ما الذي يخفيه؟ المهم العقوبة فقط، والنتيجة"استمرار الكذب، مع استمرار العقوبة"، والنتيجة هي أجيال لا نثق بها! أعلم أن الميل إلى العقوبة ثقافة سائدة في المدارس وبين الأسر، ربما نتيجة لانخفاض الوعي، أما أن يصدر هذا التصريح وهذه المطالبة من محام يفترض أنه مطلع ويعلم أن كل سلوك له"أسباب"، وكل فعل يقابله رد فعل مساو له في القوة. العلاج بالحب، بالمزيد من الحب، والمزيد من الحب، هو الذي يحمي بناتنا من الهرب، أما العنف أيها الفاضل فهو"يولد العنف"، ويجعلني أتجرأ لأقول لك:"هي ناقصة"! سوزان المشهدي [email protected]+