في وقت يكثر فيه الجهل مع انتشار القلم، وتعم الفوضى العلمية مع التقدم التقني، ويكون فهم النصوص الشرعية كلأً مباحاً وحقاً مشاعاً للفرد ولو لم يكن أهلاً، إذ الدين للجميع، حتى لو لم يلتزم به فقيه زمانه، فلو ضيع صلاته، أو ألقت حجابها، ليس ذاك مهماً، الأهم الفتوى ونقل الحكم وقراءة النص أكثر من قراءة في ظاهرة تدل على جهل مركب في عالم ينادي بالتخصص ويحترمه. ومن النصوص الشرعية التي لم تسلم من تنازع الجهلة ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال:"يا معشر النساء تصدقن"فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها". واللفظ للبخاري. وفي لفظ مسلم:"فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟". ووقف المتعالمون حيال النص إلى قسمين: منكر للحديث مع ثبوت سنده، واتفاق الشيخين على تخريجه، ولا يمكن للمنكر أن يحجب الشمس بغرباله، ومثبت للحديث مع الفهم الخاطئ والقاصر له، فتراه في كل صغيرة وكبيرة يعيّرها بقوله:"ناقصات عقل ودين"، مع أن الحديث أُورد على نقيض قصده، لأنه جاء في معرض الثناء لا التعيير، ولفهم أعمق للحديث، تأمّل الآتي: 1- جاء في لفظ مسلم قيام امرأة منهن جَزْلة لتناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزلة كما قال العلماء ذات العقل الوافر والرأي السديد، فكيف تكون هذه المرأة ناقصة عقل، وذات عقل ورأي في آن واحد؟! 2- الحديث سيق في مدح النساء وقدرتهن على التأثير، فلو كان نقصاً لكان الرجل به أحق، وبوصفه أجدر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجب من إذهاب المرأة للب الرجل الحازم، وتأمل التعبير النبوي:"أذهب للب الرجل الحازم"، إذ إن معنى أذهب أي: أشد إذهاباً. واللب أخص من العقل وهو الخالص منه، والحازم الضابط لأمره، وهذه مبالغة في وصفهن بذلك"لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهن فغير الضابط أولى. فإن كانت ناقصة العقل تذهب لب حازم الرجال، أتراه كمالاً في حقه أم نقصًا؟ ألا ترى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قدرة المرأة ونقص الرجل الذي يذهب بلبه على رغم ذكائه؟ 3- الإسلام يعتبر المرأة والرجل سواء أمام التكاليف الشرعية من حيث الأداء والعقوبة، فلو كانت المرأة ناقصة عقل، فكيف يكون أداؤها وعقوبتها بالمستوى نفسه مع الرجل؟ هذا ينافي العدل الذي ينادي به الإسلام، فناقص العقل لا يكلف بمثل ما يكلف به من هو أكمل منه عقلاً، ولا يحاسب بالقدر نفسه الذي يحاسب به، وفي الحلقة الثانية، سنأتي على المقصود بنقصان العقل والدين، بحسب النصوص الشرعية، لا أهواء"المتعالِمين"في الاتجاهين. * داعية وأكاديمية سعودية [email protected]