لم تكن هناك أية مفاجأة للمتابعين للشأن الفلسطيني بأن يتم الاتفاق بين حركتي"فتح"و?"حماس"في مكةالمكرمة، والذي جاءت بناء على دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لجمع الفريقين المتحاربين وإنهاء الخلاف بينهما. وذلك منعاً لإراقة مزيد من الدم الفلسطيني والدفع بالعمل السياسي الفلسطيني إلى الاتجاه الصحيح في محاولة لإيجاد حل جذري لقضية الصراع العربي - الصهيوني، وتسيير الحياة اليومية الاعتيادية لفئات الشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت الاحتلال وتحت الحصار ويتعرض للقتل والتجويع من قوات الاحتلال والقوى الكبرى الداعمة له وعلى رأسها الولاياتالمتحدة. فهل يمكن للشعب الفلسطيني ان يتحمل أكثر مما يتعرض له خلال ال60 سنة الماضية وعلى يد قياداته التي يفترض ان تكون مؤتمنة على مستقبله، ويجب أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية لتأخذه الى فضاء الاستقلال والحرية والحياة الإنسانية الكريمة؟ الاتفاق لم يكن مفاجأة لسبب جوهري وهو ان الدعوة موجهة من القيادة السعودية، هذه القيادة التي تحملت مسؤوليتها تجاه القضية الفلسطينية منذ نشأتها، وبمبادئ ثابتة أصبحت جزءاً من السياسة السعودية الخارجية. هذه السياسة التي تنتهجها القيادة السعودية قولاً وعملاً. فهي الدولة العربية الوحيدة التي تفي بالتزاماتها المالية تجاه السلطة الفلسطينية حالياً وتجاه منظمة التحرير الفلسطينية قبل ان تنقسم الى سلطة ومنظمة. هذه القيادة التي تدافع عن الحق الفلسطيني في المحافل الدولية من دون كلل أو تلون في المواقف وفق المصالح، فالقضية الفلسطينية بالنسبة للقيادة السعودية مسألة مبدئية لا تخضع للمصالح المتغيرة ومهما كلفها الثمن. لنعد بالذاكرة قليلاً فقط، الى موقف المملكة بعد وصول حركة"حماس"الى السلطة وتشكيل الحكومة الفلسطينية الحالية. فعلى رغم الصعوبات التي واجهتها قيادة حركة"حماس"في تشكيل الحكومة بعد فوزها في الانتخابات وهذا لم يمر عليه أكثر من عام، فهو تاريخ معاش عرضت على حركة"فتح"الدخول في تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن حركة"فتح"رفضت حتى الحديث في هذا العرض، بحجة ان من فاز في الانتخابات عليه ان يتحمل تبعاتها. وكان الهدف بالنسبة للكثير من المراقبين هو وضع حركة"حماس"على المحك امام جماهيرها وأمام القوى الفاعلة في العالم، وبالتالي إثبات عدم قدرتها على ادارة دفة الصراع الفلسطيني- الصهيوني، بحكم موقفها الأيديولوجي من الدولة العبرية، حيث ترفض الاعتراف بها وتطالب بإيجاد هدنة طويلة المدى مع الكيان الصهيوني. وهو ما لا يقبله الإسرائيليون ومن ورائهم الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون. ومن ثم حصل الانقسام في المواقف بين رئاسة السلطة المتمثلة في محمود عباس أبو مازن وبين رئاسة الوزراء التي يترأسها إسماعيل هنية. فرئيس السلطة يطالب رئيس الحكومة بالاعتراف بالاتفاقات والالتزامات الدولية التي وقعتها السلطة التي تنص صراحة على الاعتراف بالكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. وتحول جوهر القضية وما تبعه من مشاريع للسلام بما في ذلك اتفاقات أوسلو إلى ما يستطيع الفلسطينيون الحصول عليه من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967. وبطبيعة الحال هنا تكمن الإشكالية الجوهرية التي أوصلت الحكومة الفلسطينية بقيادة"حماس"للمأزق الذي تعيشه من الحصار والتضييق على الشعب الفلسطيني في الداخل وحصار الحكومة وعدم التعاطي معها في الخارج. في هذا المناخ المتأزم، كانت القيادة السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي استقبلت ممثلي الشعب الفلسطيني بقيادة حركة"حماس"، وهي التي استمرت في دعمها المالي ومواقفها السياسية من دون مجاملة لأي طرف دولي أياً كان هذا الطرف. ولم تلتفت القيادة السعودية للضغوط الخارجية وكان لا بد للعالم من أن يحترم مواقف القيادة السعودية التي بنيت على أسس منطقية تعبر عن إدراك نقاط القوة واستثمارها سياسياً. فالحكومة السعودية ليست بحاجة الى مجاملة أحد مهما امتلك من القوة والغطرسة وأقصد هنا الادارة الأميركية. القيادة السعودية لا تحتاج الى معونات خارجية يمكن ان توقف عنها أو تستغل للمساومة على مواقفها. هذه المواقف المبدئية والمستقلة وجدت صداها لدى الشعب الفلسطيني بكل فئاته وقياداته ومثقفيه على اختلاف توجهاتهم. وعلى هذا الأساس عندما بادر الملك عبدالله بدعوة القيادات الفلسطينية المتقاتلة للقاء، فهو يدرك جيداً أنها الفرصة الأخيرة التي يقدمها لهم على طبق من ذهب ليتجاوزوا خلافاتهم ويتوصلوا إلى تسوية تعيد لهم نوعاً من الصدقية أمام شعبهم أولاً وأمام الرأي العام العربي والدولي. فليست هناك هدية يمكن للفرقاء الفلسطينيين تقديمها للحكومة الإسرائيلية، مثل هذا الاقتتال الداخلي. لتنعم الحكومة الإسرائيلية على رغم كل مشكلاتها وضعفها حالياً بالعبث في مقدسات الأمة والقيام بحفرياتها بالقرب من المسجد الأقصى الشريف، ولتأخذ الوقت الكافي لإعادة ترتيب أوراقها بحجة عدم وجود الشريك الفلسطيني الذي يمكن التفاوض معه. مع أن الكل يدرك انه لو لم توجد هذه الحجة لوجدت الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية حجة أخرى للاستمرار في عملية الاحتلال، الذي يجب ان تتجه الجهود الفلسطينية ومهما اختلفت قياداتها للوصول الى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للعيش، التي كان يفترض من حكومة"حماس"وعند تسلمها رئاسة الحكومة ان تهيئ كوادرها لقبول المبادرة العربية التي هي أساس مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، أو تبتعد عن عملية الانتخابات والدخول في اللعبة السياسية، لتستمر في مواقفها المعارضة كفصيل المقاوم. ومن ثم يمكن لها ان تدخل اللعبة السياسية بعد عملية التحرير وليس قبل ذلك، فمتطلبات السلطة شيء والمقاومة والتزاماتها وممارساتها شيء آخر. إذ لا يمكن عملياً الجمع بينهما إلا في حالات نادرة وبظروف دولية مواتية. ان اتفاق مكةالمكرمة يعيد الوضع الفلسطيني الى الموقف الصحيح الذي كان يجب ان يتخذ بعد الانتخابات التي فازت بها حركة"حماس"مباشرة، وأساسه تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم حركتي"فتح"و?"حماس"، ما قد يرفع الحرج عن حركة"حماس"في تعاطيها مع الاتفاقات الدولية التي أبرمتها السلطة الفلسطينية قبل وصول حركة"حماس"لرئاسة الحكومة. وكل هذا يتطلب أيضاً موقفاً صريحاً وشجاعاً من"حماس"، لأن اللجنة الرباعية وضعت شروطها مسبقاً للتعامل مع الحكومة الفلسطينية أياً كانت، ومنها قبولها بالاتفاقات والالتزامات الدولية، وهذا ما حدا بالاتحاد الأوروبي إلى الترحيب باتفاق مكةالمكرمة ولكن مع الحذر لكي تتبين مواقف الحكومة التي ستتشكل بناء على هذا الاتفاق وبمعنى آخر هل سيكون هناك اعتراف صريح بالكيان الصهيوني أم لا؟ وبالنسبة للملك عبدالله، فإن الدم الفلسطيني محرم، ويجب مساعدة الفلسطينيين في الاستقلالية في التعاطي مع قضيتهم وفتح آفاق المستقبل لهم. فهل يتحملون المسؤولية وهي جسيمة بلا شك؟ أما نحن السعوديين فندعو مع شاعرنا الكبير خلف العتيبي في أحد أوبريتات الجنادرية:"يا عل شمسك يا بو متعب ما تغيب - ويا عل ما نسمع بيوم كسوفها". * أكاديمي سعودي.