إنهم يحاولون خلق نوع من الفراغ الدستوري في لبنان، ما يعني كارثة لبيروت ستحيل هذه الدولة المغلوبة على أمرها، من شرقها إلى غربها، إلى مجموعة معسكرات"إنسانية"مُحققة، ستقود وبشكل دراماتيكي إلى عودة الانفلات الأمني مجدداً في شوارع العاصمة، وظهور ميليشيات تضم مرتزقة يقتاتون من دماء الرؤوس التي يفلحون في إطاحتها عن أجسادها! لقد تابعت - مثل غيري - وبكل ألم التصريحات التي أطلقها زعيم"حزب الله"حسن نصر الله، الذي مازال حتى لحظة كتابة هذا المقال يرددها بصوت جهوري، لا يدل على أدنى إحساس بالمسؤولية تجاه الخطر الذي يحدق بأمن وسلام ووحدة لبنان، أرضاً وشعبا ًوهو نصر الله يهدد كل من يختلف معه، بأن لديه من الأوراق ما يربك أية قوى داخلية، إذا ما فكرت هذه القوى مجرد التفكير في"اللعب"معه، أو فرض شخص ما كرئيس للجمهورية لا يوافق عليه، وبأنه سيضرب بنتائج الانتخابات عرض الحائط، وسيعتبر الفائز بهذا المنصب مغتصباً للسلطة، حتى ولو تجاوز عدد من انتخبوه نصف عدد النواب، وأنه لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تجعله ينفذ القرار 1559، القاضي بتسليم حزب الله لسلاحه، وأنه على أتم الاستعداد للدخول في مواجهات عسكرية مجددة إذا ما استدعى الأمر ذلك... ثم قائمة غريبة من التوجيهات والأوامر والتنظير والتقويم تظهره كما لو كان حاكم ومالك لبنان وشعبه، أو كأنهما إرث توارثه لا يحق لأحد منازعته أو حتى مناقشته في أمره، وإلا كان الضرب أو القتل مصيره، وهذا التهديد الصارم دفع بعدد من النواب إلى الالتجاء لأحد الفنادق، حرصاً على حياتهم وخوفاً من أن تكون قائمة الاغتيالات قد ضمت أسماءهم... منطق غريب ومستفز يعيد إلى الأذهان صورة رجل"الكاوبوي"في الأفلام الأميركية الذي يجوب البراري مُشهراً سلاحه ومتحفزاً لقتال أي شيء يتحرك أمامه، أو لا يستجيب لمطالبه! مسكين لبنان الذي ابتلاه الله بأبناء يتصرفون كما لو كانت قوتهم دائمة، وأن خيوط ما يصفونها ب"اللعبة"ستظل في أيديهم! إنني أتعجب من شخص مثل"نصر الله"الذي يتصرف كمستبد، كيف غاب عن فكره ووعيه وقراراته لبنان الوطن، وليس لبنان الاسم؟ وكيف غابت عنه صور المآسي المؤلمة للحرب والصراع، على رغم أنه اكتوى بمأساة وفاة أحد أبنائه في صراع بين القوى اللبنانية وغير اللبنانية لم تحسمه القوة؟ كيف تغيب من أمامه مصائر المستبدين، وصفحات التاريخ مليئة بسيرهم ونهايتهم؟ لماذا هذا التكبر والتجبر؟ وما الريشة التي على رأسه وتجعله يحرك لبنان يُمنة ويُسرة هكذا؟ قد لا أحتاج لأن أكون لبنانياً أنتمي إليه، لأحس وأدرك مدى الخطر الذي يتهدده ويتهدد شعبه، ولكن ما يحدث في أرض لبنان يصيب أي إنسان سوي بالاشمئزاز والضيق والخوف على الأطفال والشباب والنساء، في دولة يعشق أصحابها الحياة والثقافة والعلم... إن تصريحات"نصر الله"تظهره بصورة المتكبر لا القائد لحزب سياسي، مسؤول عن شعب وأمنه واستقراره وتنميته، كما أن تصريحاته مستفزة تصيب بالرعب كل لبناني. إن انتقادي هذا ليس من منطلق مذهبي أو طائفي، كما قد يتوهم بعض المتحمسين الذين لا ينفكون في إرسال رسائل سب على"إيميلي"الخاص، ظناً منهم أن انتقادي هذا يعود لخلاف في التوجه أو الفكر أو المذهب، وهو خطأ كبير أربأ بنفسي عن الوقوع فيه، فلا يهم اختلافنا، قدر ما يهم إحساس كل طرف بمسؤوليته تجاه الطرف الآخر، إن لبنان ليس طيفاً، وقوته تكمن في تنوعه وتعدد مذاهبه، وجماله يبدو في تعايش كل طرف مع الآخر من أهله، فهو يكاد يكون القطعة الجغرافية الوحيدة في العالم التي تضم كل هذه التنوعات الفكرية والثقافية والسياسية والمذهبية، ومطلوب من أطراف هذا التنوع المحافظة عليه وترسيخه، بدلاً من ظهور زعماء كرجال يرغمون الآخر على اتباعهم، حتى ولو كان ذلك قسراً وقهراً، هذا هو محط الاختلاف، وليس شيئاً آخر... وهذا ما آمل أن يدركه السيد نصر الله، ومن معه، حفظاً للبنان ومن قبله حفظاً لأرواح أبنائه ووحدة ترابه. [email protected]