كثيرون يأخذون على عواتقهم مسؤوليات تجاوز طاقاتهم، لا لرغبة ذاتية بل لأنهم يخافون إغضاب الآخرين، أو لشعورهم بعدم الاطمئنان، ما يجعلهم متكلين على رضا الناس في حياتهم ولشدة الرغبة في كسب الرضا والمودة من الطرف الآخر يعجزون عن قول لا، فهم مستعدون لتلبية كل طلب مهما يكن مزعجاً، ما يؤدي لشعورهم بالغبن والإرهاق وينقمون على أنفسهم وعلى الآخرين! ألقت بجسدها الثقيل وبطنها المنتفخ على الأريكة السوداء في صالة الانتظار الفسيحة تنتظر دورها لرؤية الطبيبة والاطمئنان على جنينها على حالتها الصحية، منذ عامين مضت وهي تشعر أنها في حاجة إلى طبيب يطمئنها على حالتها النفسية وليست الجسدية! مضت فترة طويلة وينتابها شعور بعدم القدرة على تنظيم أمورها الأسرية وعلى ضبط أعصابها مع عائلتها، وكأنها مصابة بنوع غريب من الاكتئاب واللامبالاة، وذلك بسبب إجبار نفسها على حذف كلمة لا من قاموس علاقتها بزوجها واستبدالها بكلمة نعم وحاضر. لم تعد هي نفسها ولم يعد هو زوجها الذي أحبته وتركت عملها من أجله، وتابعته خطوة بخطوة، شجعته منذ البداية ليحقق النجاحات والتفوق الذي يرفل به الآن... هل شعر الآن بفارق السن بينهما؟ انها لا تكبره سوى بعامين وعوضت بإحاطته بكل حنان وتفهم إلى جانب الاهتمام بنفسها وجمالها لتبقى في محط اهتمامه، كما هو وبناتها محط اهتمامها في حياتها. ولكن هناك مشكلة ثانية طفت على سطح حياتها الزوجية ولكنها ليست المسؤولة المذنبة في هذه المشكلة إنجابها لأربع بنات والآن الخامسة آتية على الطريق لقد عملت بمشورة أهل الخبرة من الصديقات واتخذت كل الاحتياطات ليكون المولود ذكراً ولكنها إرادة الله. على زوجها أن يفهم أن سمو العاطفة بين الزوجين تعني المشاركة في الأبوة، وليته يفهم أن وجود البنات لا ذنبه ولا ذنبها، ولماذا البنات أصلاً هم ذنب، فالخلفة سواء كانت بنتاً أو ولداً فهي نعمة من الله. لامست وجهها نسمة هواء باردة، عدلت جلستها ومسحت دمعة سالت على وجنتها أربكتها، أيمكن لأحد من الجالسين لاحظ حزنها ووحدتها، منذ فترة وهي تزور العيادة من دون صحبة زوجها، حتى أنه لم يعد يسألها عن صحتها أو حال الجنين. يمكن أن يكون قد خمن أن المولود أنثى حتى ولو لم تخبره بذلك... المهم اتبعت نصيحة والدتها وجدتها وعمتها وجارتها وهي مسايرة الزوج ومهاودته واستبدال كلمة لا بنعم حتى لا تكون لديه حجة للزواج بأخرى، وربما انجاب الذكر ونبهت وبشدة أنها لها نصيب من الذنب إذا فقدت زوجها، شعرت بخسارة نفسها وهي التي يشهد لها الجميع حتى زوجها بالحكمة والذكاء وملء الحياة من حولها سعادةً ومرحاً. مرت ذكرى رسمت بسمة على وجهها أزالت القليل من تعابير الحزن، يوم كان يقول لها زوجها"انك عصاتي السحرية لأجد النجاح والسعادة في الحياة"، لقد عانى المسكين الكثير في طفولته، طفولة يتيمة مع جدته أغدقت عليه الحب ولكن من دون دفع وشحذ للهمة وقدرة على مواجهة التحديات في الحياة، فكان في شبابه خلوقاً محباً ولكن ضمن دائرة من الحذر والتردد لحد التخاذل، ولكنه وجد القدرة للنجاح والمواجهة في حبه وثقته بزوجته. همست"أين ذهب كل هذا الحب؟"اتجهت نظرات الجالسين نحوها بدهشة، هزت رأسها ولامست بطنها تتحسس حركة جنينها وكأنها تتجاهل سماع الآخرين همسها، عادت للمنزل لتجد زوجها كعادته مع بناته حول الطاولة يتابع دروسهن، وقد ألهى الصغيرة بتلوين بعض الرسومات الكرتونية. حيتهم باقتضاب وتوارت عنهم في غرفتها تحمل حيرتها وألمها، انه يحب البنات بناته ولكن لماذا لم يعد يحبها لماذا ولماذا؟ علا صوتها عالياً في الغرفة أذهل بناتها، اندفعوا نحوها بطفولتهم وقلة حيلتهم يعانقونها ويقبلونها، سألها زوجها عن حالها، ردت بصوت حاد وبماذا يهمك ما بي فأنت ومنذ زمن لم تسأل ما بي وماذا أريد؟ حاول الزوج تهدئتها مبرراً حالتها بسبب ارتفاع حرارة الجو والرطوبة، اقترح كأساً من العصير البارد لإنعاشها. فتحت فاها لتكيل إليه عتابها وآلامها وحيرتها، لكنها تذكرت نصيحة الأهل يجب أن تطيعيه في كل كلمة رددت نعم نعم... صرخ الزوج نعم نعم منذ عامين وأنا لا أسمع منك سوى نعم، هل تعتقدين أنني معتوه وهل أصبحت في نظرك غير جدير للحوار والمسؤولية؟ فتحت فمها وفرصعت عيناها ونفضت جسمها ووقفت حائرة ماذا تقول نعم أم لا... قالت بتلعثم ليس ذنبي إنني أنجبت البنات، رد زوجها باستغراب وما ذنب البنات لولاهن لما تحملت منك كل هذا التجاهل وتعمدك تجنبي وإرضائي بكلمة حاضر ونعم. لحظة تشوبها صمت وحيرة استجمع الاثنان الكلام، سألت أيعني هذا أنك ما زلت تحبني وتحب بناتي وتريدني أن أقول لا عندما تكون نعم من غير معنى؟ قال الزوج نعم أريدك عصاتي السحرية التي شجعتني متى أقول نعم للحق، ولا عندما يغيب الحق، ألا يكفيني في الحياة زوجة صالحة محبة وأربع زهرات ملأن حياتي وزين حديقة عمري ياسمين ونرجس وفلة وزهرة ووردة قادمة أريد رأيك بمسودة كتابي الجديد قبل إرساله إلى المطبعة عنوانه لك وللجميع أنا وبناتي زهرات حياتي. شهرزاد عبدالله - جدة