في حياة الشعوب ثمة تحولات كبرى في تاريخ مسيرتها الإنسانية، لا يمكن لها أن تمر عليه مروراً عابراً، من دون ان تكون هناك لحظات تأمل تستحث فيه ذاكرتها الجمعية، لتزداد فهماً لمعاني هذه التحولات، وما أحدثته في تفاصيل تكوينها وطبيعة الآثار المترتبة على هذه التحولات الجذرية. لا يختلف اثنان بالنسبة إلينا كسعوديين وفي تاريخنا الحديث تحديداً على انه لا يمكن ان يكون هناك ما هو اهم من اليوم الوطني كمنجز تاريخي إنساني متحقق واقعياً. فاليوم الوطني هو اللحظة الحاسمة التي تفصل بين عالمين مختلفين تماماً، عالم ما بعد التوحيد الوطني وعالم ما قبله. إن انجاز توحيد البلاد بحدودها الجغرافية ومكوناتها البشرية حالياً على يد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - هو المحرك الأساس لكل الانجازات البشرية التي تحققت منذ زمن الوحدة التي خلقت الدولة السعودية المعاصرة بكل ما تعنيه هذه الدولة من أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية. هذه القوة الإقليمية كيف يمكن لها ان تكون بهذا الحجم وبهذا الثقل لولا عملية التوحيد؟ وكيف يمكن لها ان تستمر وان تُحدث انجازاتها البشرية في كل لحظة من لحظات مسيرتها منذ بزوغ فجر التأسيس؟ كيف يمكن لهذا العبقري الملك عبدالعزيز بنظرته الثاقبة ورؤياه الاستراتيجية ان يخلق هذا التاريخ الإنساني المشترك بين خمسة أقاليم أو ما يعادل خمس دول عربية في زمن التشرذم؟ كيف يمكن لهذا الزعيم ان يخلق الحس المشترك والهدف المشترك وان يبني الاسس لعملية الاندماج الاجتماعي، بحيث يحتفل الجميع بهذا اليوم؟ وكيف يحول هذا التوحيد فئات قبلية ومناطقية متصارعة الى عناصر اجتماعية فاعلة منخرطة في مشروعه الحضاري؟ هذه الأرض التي تتسم بشحة مواردها الطبيعية، وقلة امكاناتها البشرية بسبب الجهل والمرض والتخلف، كيف يمكن لعزيمة الرجل وطموحه ان يحولها الى القوة الفاعلة والمؤثرة في محيطها العربي والاسلامي والدولي؟ كانت الخطوة الاولى في بداية مشروعها الحضاري، مسألة توطين البادية وترحيل اكبر مكوناته الاجتماعية من حياة التنقل والترحال الى الحياة المدنية المستقرة، وهذا يعني في جوهره انتقال الولاء بعد الولاء لله سبحانه وتعالى الى الولاء للوطن، للكيان الموحد بعدما كان الولاء متنقلاً تحمله"القبيلة"حيث تساقط المطر او منحصراً في قرية مغلقة على نفسها تخاف القرية المجاورة. كيف استطاع الملك عبدالعزيز ان يرى هذا من دون غيره، وان يحلم بهذا من دون غيره وان يحقق هذا من دون غيره؟ اليس هذا كله ما يجسد لنا معنى الزعامة التاريخية الخالدة؟ ان بناء الاوطان وخلق الولاء للوطن ليس شعاراً عاطفياً تردده المجموعات البشرية من دون ان تحسه متجسداً في وعيه الذاتي شعورياً او لا شعورياً، انه عملية ممارسة يومية يؤمن بها الجميع ويلمسها الجميع، بحيث تتجلى بصور مختلفة امام عيونهم، ما يخلق التجانس بين المواطنين ويخلق التلاحم بين المواطنين، وبين قيادتهم التاريخية. ان عملية بناء مؤسسات الدولة والخدمات التي تقدمها لكل المواطنين هي التي تخلق بطبيعتها هذا التاريخ الانساني المشترك. ان كل واحد منا داخل هذا الوطن يعيش عملية التوحيد في عمله اليومي وفي علاقاته الاجتماعية، انني شخصيا وزملائي في الجامعة نلمسها عند قراءة قائمة اسماء الطلاب في موادهم الدراسية، الذين ينتمون الى فئات اجتماعية ومناطقية مختلفة يجمع بينهم تأهيلهم العلمي فقط، اي بمعنى آخر انجازهم الفردي داخل المنظومة الاجتماعية، وهذا هو اساس بناء الدولة المعاصرة التي نفتخر بانتمائنا لها. هؤلاء الشباب الذين نحتك بهم يوميا يدخلون الى اكبر مدينة جامعية في الوطن العربي باحدث التجهيزات المادية. هؤلاء الشباب الذين بلغ عددهم هذا العام 70 الف طالب في جامعة الملك سعود وحدها، في حين ان الملك المؤسس لم يجد من يستطيع القراءة والكتابة في مناطق متعددة في مملكته الفتية في مرحلة التأسيس. هؤلاء الشباب وزملاؤهم ومن سبقوهم ومن يأتي بعدهم لا شك في أنهم يستشعرون ويقارنون ما عاشه اجدادهم من شضف العيش، وما ينعمون به اليوم من وسائل الراحة وانفتاح آفاق المستقبل امامهم. ان تكوين الجمعيات الأهلية والمهنية بطبيعته، هو امتداد لعملية التوطين ولو بشكل آخر من حيث تعميق الولاء للوطن وفي الوقت نفسه تعميق الولاء للقيادة التي تحقق له المشاركة في العطاء والشعور بالكرامة الانسانية كفرد فعال يلعب دوراً محورياً في عملية البناء في مجال اهتماماته. ان استرجاع تاريخ بلادنا هو ما نراه في عيون الاطفال، وهم ذاهبون الى مدارسهم يحملون علم التوحيد تزينه كلمة"لا إله إلا الله محمد رسول الله". ان اليوم الوطني هو ما تجسده الاشياء البسيطة في ممارستها والعميقة في دلالاتها. ولنأخذ حدثين بسيطين تما في الأيام العشرة الماضية، وهما عقد مؤتمر وزراء الاعلام للدول الاسلامية في جدة برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله -حفظه الله - والمؤتمر الدولي الأول لآليات التنمية النظيفة الذي عقد في الرياض تحت رعاية امير منطقة الرياض الامير سلمان لتلخص لنا حقيقة المملكة العربية السعودية كوطن وكقوة اقليمية ودولية، ان مؤتمر وزراء اعلام الدول الاسلامية، يجسد لنا العمل الاسلامي المشترك في تحقيق الشعور بالانتماء لهذا الدين العظيم والدفاع عن مبادئه وقضاياه واخلاقياته في ظل الهجمة الشرسة على الدين الاسلامي نفسه، فنحن قلبه النابض ومن ارضنا عمت رحمته للعالمين. وفي المقابل، فإن مؤتمر آليات التنمية النظيفة هو اول مؤتمر دولي يتم بالتقنية المتعلقة بالحفاظ على البيئة من التلوث واشكالية الانحباس الحراري جراء استخدامات الطاقة المختلفة في الصناعة. وفي قلب عاصمتنا الرياض، تجمع معظم خبراء العالم في هذا المجال ليناقشوا احدث الاساليب التقنية للحفاظ على البيئة الانسانية، التي يتشارك فيها كل البشر على الكرة الارضية. والمؤتمر يعبر عن مرحلة متقدمة في الأخذ بالاساليب العلمية المعاصرة، فنحن فعلاً نعيش في قلب العصر الحديث، وفي الوقت نفسه نتمسك بمبادئ الاسلام وقيمه وندافع عنها، فنحن من يملك قيم الاصالة والمعاصرة ونحن نجسد عملياً مفهوم"مملكة الانسانية"الذي يقول عنها الملك عبدالله - حفظه الله - ان بلادنا بلاد خير وخيرها يعم على الانسانية كلها، فما اجمله من يوم وطني في التاريخ الانساني المعاصر. * كاتب سعودي.