أصدر الشاعر محمد جبر الحربي ديواناً جديداً عنوانه"زمان العرب"، وهو عبارة عن قصيدة واحدة فيها الكثير من التغني بأمجاد العرب وقيمهم. وبدا أن الحربي في هذا الديوان غير معني بتجاوز تجربته جمالياً، وإن كان جديده يذهب إلى تعميق منجزه السابق، ويمثل استمراراً له. وإذا كان هناك من يعتبر أن نبرة التغني والمديح لكل ما هو عربي، لدى الحربي تأتي أقرب إلى الشعارات، التي لم تعد اليوم موجودة، فإن الحربي من جهة يعتد كثيراً بمسعاه هذا ويفسح له مساحة كبيرة في تجربته الجديدة. ويظل الحربي دائماً من الأسماء الشعرية التي تتميز بمواقفها الراسخة، إزاء الكثير من القضايا على الأصعدة كافة، وأي كلام له لا يصدر عن فراغ، إنما من رؤية واضحة وعميقة. هنا حوار مع الشاعر حول جديده، وقضايا شعرية وثقافية أخرى. غبت سنوات طويلة عن إصدار الدواوين ثم خرجت ب"زمان العرب"، فهل ترى أنها العودة التي تتطلع إليها كشاعر يتميز بتجربة عريضة؟ - نعم، لكنها ليست عودة، بل استمرار لصوت الحق والخير والجمال، الذي أدعو دائماً أن يقدرني الله على إسماعه وبثه، في أوقات النشاز والانكفاء، ليعرف الأهل علو قامتهم، وجمال بيانهم، وروعة أمتهم، وعدالة قضاياهم، وأنهم على الحق، وأن المعتدين على باطل. وهي استمرار نبيل وجميل لتجربتي التي أعتز بها، وإن أزعجت من لا يحملون الروح نفسها تجاه أمتهم وقضاياهم. بل إن مصدر سعادتي أن تزعج أمثالهم. "زمان العرب"طغت فيه النبرة العروبية، التي رأى فيها البعض اقتراباً من الشعار، وأيضاً حفل بالتغني بقيم ينبغي، بحسب هؤلاء، وضعها اليوم على المحك...، قد يكون من حقك أن تفخر بالعرب والأمجاد العروبية، ولكن ما يحدث للعرب اليوم ولثقافتهم لا أحد سواهم يتحمل مسؤوليته، فالتشرذم والمؤامرات سمة عربية في وقتنا الراهن، ما تعليقك؟ - ما دام من حقي، وتكرمتم بإعطائي هذا الحق، فسأظل أغرد بمدائحهم، ولو كره الكارهون. وسأظل أمجد لغتي وقيمي وحضارتي وأهلي وأزهو بهم، وبها، مهما تآمر العالم ضدهم. ثم يا سبحان الله هل أصبحت أمجادنا هي التي ينبغي وضعها على المحك، كيف يمكن لإنسان ينتمي لهذه الأمة أن يقول ذلك؟ على الصعيد الجمالي كان الديوان القصيدة وفياً إلى تجاربك السابقة، وهي تجارب جعلتك واحداً من أهم شعراء الجزيرة العربية، إلى أي حد كنت معنياً بالجانبين الجمالي والفني للقصيدة على مستوى اقتراحات شعريات وصور ولغة جديدة؟ - على رغم أن صوت القصيدة ليس أعلى من أصوات الدمار والهلاك والقتل الذي يدوي، بفعل الأعداء، إلا أنها كتبت بالقلب والروح، ورسمت حروفها بالدم الطاهر، واستقت لغتها من نبع اللغة القرآنية العالية، وامتلأت بالجمال الفني الذي يليق بنا كأمة وحضارة وأهل شعر وأدب وثقافة. القصيدة للقارئ الذي لا يعادينا ولا يكرهنا، للقارئ المنصف، كنز جمالي يليق بأهلي من دون غرور. وإن شئت فبثقةٍ وتعالٍ يليق بعلوهم والنخيل. يشعر المرء وهو يتحدث معك، أنك كنت موضوعاً لظلم كبير، مع أنك وثلاثة شعراء آخرين اختصرتم كل المشهد الشعري في وقت سابق، ولعل مشاركتك في تأبين الراحل عبدالله نور، وذكرت فيها أن الراحل قال لك"ظلمناك يا محمد..."تعطي الانطباع بذلك، فهل كنت بالفعل مظلوماً، وما نوع هذا الظلم، وهل كانت هناك مؤامرات تحاك ضدك بإقصاء تجربتك مثلاً عن التجارب المؤثرة؟ - أفضل أن أكون مظلوماً لا ظالماً، لكنني لا ألتفت لذلك كثيراً، فأنا مشغول بالظلم الذي وقع على أمتي وأهلي في فلسطين والعراق وكل مكان أكثر، وأحاول أن أعبر عمّا وقع عليهم، وأن أغيّر المنكر ولو بقلبي، ولساني، وأن أكون مقاوما للشر والقبح والظلم والكراهية والحقد الذي يعتمل في صدور الأعداء بالكلمة، والكلمة طلقة مقاومة. كيف تصف اليوم علاقتك بعبدالله الصيخان ومحمد الثبيتي وشعراء تلك المرحلة، أي مشترك يجمع بينكم اليوم، أو أي أمور شتتتكم؟ - علاقة محبة واعتزاز، وكلاهما أكثر من صديق، لكن الأيام باعدت بيننا بسبب ظروف الحياة لا أكثر. وكلاهما شاعر رائع. ماذا بقي من صخب الثمانينات؟ - لم يكن صخباً بالنسبة إلي، كان بناءً وجمالاً وانطلاقاً، وأنا أمامك، ألست كذلك؟ يتداول البعض من الشعراء والمثقفين موقفك من قصيدة النثر، وتم اختصار موقف شعر التفعيلة أو الشعراء التفعيليين من قصيدة النثر في موقفك منها، ما الجديد في هذا الموقف، ألا يوجد شاعر ناثر يكون جديراً بانتباه منك؟ - لست ضد أحد، ولا ضد أية تجربة، فقط أنا لا أتذوق كثيراً من الكتابات السهلة التي تدعي الإدهاش، الكتابات الباردة، ولا أحب النقاد الذين يطبلون لها، ويحملونها أكثر مما تحتمل. وما قلته عن النثر قلته عن التفعيلة والعمودي، وينطبق عليهما. شعراء من كوكب آخر هل ترى المشهد الشعري اليوم مهيأً لاستقبال دواوين شعرية من جيلك أو من الأجيال الجديدة، وكيف ترى هذا المشهد في شكل عام؟ - ما بكم تتحدثون عنا وكأننا من كوكب آخر، ما الذي جرى لكم؟ المشهد لنا ما دمنا قادرين على العمل، وللأجيال الجديدة، حتى نموت، وربما بعد موتنا أكثر. في أمسيتك الشعرية التي نظمت في الدمام، أثبتّ أنك لا تزال تتمتع بجماهيرية، فالحضور كان كبيراً مثلما نشرت الصحف، مع أن هناك من اعتبر أن منظم الأمسية كان أشبه بمن يحتفي بالموتى، أو بشعراء لم يعد لهم حضور، كيف ترى هذه المسألة، وما الذي دعاك إلى مخاطبة الناقد محمد العباس في بداية الأمسية أن يأتي ويرى؟ - أنا قلت للعباس إبان جدل معرفي دار بيننا، أنني قادر على ملء أية قاعة اقرأ فيها، وذلك ما حدث، وتلفت فلم أجده في الأمسية، فوددت لو كان موجوداً. وأنا إنسان محب ولا أعادي، والجميع يعرف ذلك كان على سبيل الدعابة. أما مسألة أننا موتى وهناك من يحتفي بنا، فكبيرة حتى على مخيلة أصحاب الكلام السهل. ولكن الشجر الجميل المثمر يعتبر شيئاً استثنائياً، مع القبح والحجارة. أليس بديهياً أن يقوم"بيت الشعر"التابع لنادي الرياض الأدبي مثلاً انطلاقاً من مهامه، بتقديم تجربتك، وليس بالضرورة من منطلق احتفالي، إنما يمكنه أن يسائل تجربتك ويعاين منطلقاتها، أي وضعها على محك النقد؟ - الأندية الأدبية لم تدعني منذ عشرين عاماً إلا ما ندر، ولا يهمني ذلك، وبعض مسؤولي الملاحق الثقافية يحيلون أخباري وأخبار ديواني إلى الصفحات اليومية، وهناك تعمية وظلم كما أسلفت، لكن في المقابل هناك حب يغمرني من الآلاف من الناس الذين هم زادي وغايتي، والجمال لا يمكن حجبه ولا التشويش عليه، فشعري وكتاباتي ودواويني تصل في شكل مبهج، وبريدي عامر كل يوم برسائل أناس لا اعرفهم ولم ألتق بهم، من مختلف مدن الأمة لا وطني الحبيب فقط، فشكراً لله. تشرف على وكالة للدعاية والإعلان وعملها ليس بعيداً من صناعة الثقافة، كما أن ديوانك صدر عنها، ماذا تمثل لك هذه الوكالة، وأي أفق ترسمه لها؟ - هي للنشر والإنتاج أيضاً، نشر وإنتاج ما هو ثقافي وقيم ومميز ومختلف. ولديها مشاريع ستبهج وتفاجئ الساحة الثقافية في القريب، ومن ذلك الاهتمام بإبداع الأجيال، وما زمان العرب إلا واحد في سلسلة طويلة من الأعمال المميزة شكلاً ومضموناً إن شاء الله، وقد سميتها على اسم زاويتي التي في الجزيرة لتعني أوائل الأشياء وأعاليها. مقطع من زمان العرب على الأرض منه السلام وللعرب: طيبهم والتقي، وفيهم رسالته، والنبي، وأعلى صروح البيان. فأما الحروب فمن صنع فرعون هذا الزمن وهامانه: يرفع الصرح ملتبساً بالخديعة، مستكبراً بالحشود، ومستنفراً فتنة المائلين لهدم الجنان. وأما البيان فهذا بياني لكم فاحفظوه وكونوا به الرمح والصولجان وكونوا الخلائف في جنة الله، ارض الرسالات مهد الحضارات مفروشة بالغمام، ومعروشة بالعنب وكونوا الثوابت والعاديات أعدوا لهم ما استطعتم من كبرياء، مسومة بالجلال وممهورة بالغضب. ولا تهلكوا وتوخوا بها ما أمرتم به من عتاد ومن زاد عزتكم من أيادٍ، ومن صافنات العناد ولا تتركوا كائناً لا يقاوم فيكم وإن حجراً ساكناً سيئن ليبلغه الطفل غايته في جبين الجبان فأشجاركم ستسنُّ وأضلاعكم ستسنُّ وأرواحكم ستسنُّ فلا تستوي ذلة وجبين العرب وكيما يعم السلام ويزجى الحمام ويمحى الظلام ورجس الغزاة فهذا البيان من الشعر مارجه للعدو، وخالصه للعرب وهذي الشهادة بالحق عالية كنخيل البلاد التي احرقوها على غير حق وأدركها الله بالنصر عما قريب فهاتوا مواثيقكم واكتبوا لغة الفخر في الصدر في أول السطر إن الكتابة فيمن غلب: لم أقف صامتاً حين دكت جيوش التتار الجدار وحلت بأهلي نوائبها، والجراد لم أقف خائباً حين عاد المغول إلى غرة الأرض واستنجد الروم بالفرس واللص بالقس جاء الأراذل من كل فج بأرذل ما في الفجاج.