أصيبت الأمة بأدواء عدة، اختلفت باختلاف الأسباب والأحداث التي تتلاحق عليها كزخات المطر، لكنها لا تروي عطشان البتة، بل تزرع الخوف والجوع والجهل، لأن ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب. ولو أردنا أن نحصي ما أصاب الأمة من أدواء وأمراض لما استطعنا حصرها لكثرتها وتنوعها. ولعل اخطر الأمراض التي ظهرت قديماً وحديثاً تلك التي أصابت العقل العربي ثم أصابت الفكر بالضرورة، فكان من نتاجها أن خلقت أجواء مشحونة بين فئتين، الأولى مدافعة عن أصالة الأمة وعراقتها، مستفيدة بحذر شديد من كل جديد ينمي العقل ويفتح آفاق المعرفة، على ألا يتعارض مع ثوابت ومسلمات أساسية إيمانية، والثانية تستقي أفكارها وتوجهاتها من فتات الثقافات وسقط متاعهم وتحارب جهلاً أو عمداً كل أصيل، فتصبح معاول هدم وتخريب. ولعل قول أحدهم"لو أن الإسلام وقف حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه"خير شاهد على هذا الانحراف الفكري، ثم أن صاحب هذا القول وأشباهه نسوا أو تناسوا أن التاريخ كالشجرة الراسخة، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين، هذا وعد حق وقول صادق ممن لا ينطق عن الهوى. ولقد حاول هؤلاء تغيير ما لا يمكن تغييره بأيد مشلولة واعين عمياء، فسارت بهم الأوهام في أودية الريب الجدباء، حيث لا زرع ولا ماء، وانتهى بهم المطاف كما بدا"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فإذا أرادت الأمة أن تبقى صامدة أو بالأحرى أن تعود الى قوتها وعظمتها، فان سبيل الأمس هو الطريق الأوحد لذلك، لأن السير وراء الأفكار التي تنشأ هنا وهناك إنما هو سقوط وراء سقوط، ولن يفيدنا بشيء، إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. مختار اليافعي - الرياض