من رحمة الله بهذه الأمة أن أنزل على نبيها هذا القرآن العظيم، ليكون نوراً وهداية لمن تمسك به واعتصم به، كما قال الله تعالى:"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً"، فأنزل الله القرآن للتلاوة والتدبر والعمل به والتحاكم إليه، في كل شؤون الحياة والتخلق بأخلاقه وآدابه. فالحكمة من إنزال القرآن أن يتدبر الناس آياته ويتأملوا فيها، فيستخرجوا ما فيها من علوم ويتأملوا أسرارها وحكمها، وقد أمر الله بذلك في قوله:"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب". فإذا تدبر القارئ آياته وتأمل في معانيه، وأعاد الفكر والتفكير في تلك الآيات مرة بعد مرة، أدرك بركة هذا القرآن، وتحصل على علم عظيم وخير كثير، وهذه الآية فيها دلالة واضحة على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر للآيات أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود. فالتدبر لآيات القرآن يورث العلم بها، وبه يقف الإنسان على علوم كثيرة وأسرار بديعة وحكم بليغة. وتدبر القرآن له طريقان: إما أن يعرف معنى الآية بآية أخرى، وهذا ما يسمى بتفسير القرآن بالقرآن، وإما أن يعلم معنى الآية بما ورد في السنة، فهي موضحة ومبينة ومفسرة للقرآن. هذا هو الأصل في تدبر القرآن كما كان عليه السلف. وبالتأمل والتدبر يفتح الله على العبد من المعاني والهداية ما لا يخطر على باله، مع الرجوع كذلك إلى أقوال الصحابة والتابعين. أما اتباع القرآن والعمل به، فإن الله قد أمر بذلك في قوله:"وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون"، وأمر به في قوله سبحانه:"اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم"، وهذا الأمر بالاتباع لما فيه من الشفاء والهدى والرحمة والنور والفضل والحجة والبيان. واتباع القرآن، يعني العمل بما فيه من الأحكام التي بينها الله لعباده ولزوم أوامره ونواهيه. وقد بشر الله من اتبع هذا القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة في قوله سبحانه:"فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى"، ونفى الله عمن اتبع القرآن الخوف والحزن في قوله جل ذكره:"فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". واتباع القرآن يعني تصديق أخباره، والعمل به وعدم معارضته بالشبه، وامتثال ما فيه من الأوامر وعدم معارضتها بالشهوات. فمن كان كذلك في اتباعه للقرآن فقد هدي إلى صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، وتحققت له السعادة وحصل له الأمن في الدنيا والآخرة. واتباع القرآن يورث العمل به، لأن من لم يتبعه لا يمكن أن يعمل به. فتدبر القرآن والعمل به هما الفرق بين أول هذه الأمة وآخرها، وانه لفرق كبير، فعدم التدبر أفقد الناس العلم، وعدم الاتباع أفقدهم العمل، ولا يمكن للمسلمين أن يستعيدوا مكانتهم بين الأمم إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه. د. عبدالله الشثري عميد كلية أصول الدين