ينظم القانون أوجه السلوك الفردي والاجتماعي، أي علاقة أفراد المجتمع بعضهم بالبعض الآخر، حفاظاً على النظام العام، أما الدين فهدفه حسن عبادة الفرد لربه "وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون". أما من حيث الجزاء أو العقوبة، فعقوبة القانون آنية أو حالاً، أما عقوبة الآثام أو الذنوب الدينية فهي اخروية تتم يوم البعث أو يوم الحساب. وقد اعتمد المشرع العربي على الدين الإسلامي، فهناك نصوص قانونية توجب إنفاق الابن على أبويه المعمرين أو المقعدين، كما ان علاقة الأب بأولاده أو الأم بأبنائها هي علاقة مبنية على المودة والرحمة، فلا يجوز لأي منهما ان يعاقب الطفل عقاباً وحشياً أو يلجأ إلى اضطهاده اضطهاداً لا تقره الشرائع السماوية. ويبلغ القانون أوج تأثره بالإسلام في حالة قانون الأحوال الشخصية، إذ ان أحكام الزواج والطلاق والمواريث والنسب والنفقة هي ذاتها أحكام الشريعة الإسلامية، فالمشرع في الأقطار العربية كافة اخذ بالشرع الإسلامي في ما يتعلق بهذه الشؤون الروحية والاجتماعية والمالية باستثناء التشريع التونسي فهو تشريع فرنسي في مصدره، علماني في غايته، آخذ بمبدأ المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى، بينما الإسلام جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين، والحقيقة أن المشرع حاول ويحاول تنظيم الأوضاع الاجتماعية بعلاقاتها وتطورها، وهي أوضاع بنت خمسة آلاف سنة مضت إذ ان تطور الشؤون الاقتصادية والتجارية والمالية كالبيع والشراء والإيجار والرهن والوكالة، الخ... أوضح أن القانون مسار ينظم الأوضاع المادية والسياسية بينما الدين ينظم الأوضاع الروحية كما ينظم الأوضاع المادية تنظيماً دينياً. الحقيقة أن الأوضاع المادية هي أوضاع عامة بمعنى أن الحافز المادي أصبح هو المسيطر على العلاقات الاجتماعية التي تكيفنا وفق بريق المال، وأصبحت القيم المادية هي المسيطرة على الأوضاع الاجتماعية، لأنها قيم تقارن بصور من السعادة أو المادة الحسية التي يمكن شراؤها بالمال وحده، وبذلك أصبحت القيم الدينية مرتبطة بالظاهرة الفردية فهي أي القيم الدينية ظاهرة عامة من حيث الموافقة على الدين الإسلامي كدين انتماء، أما من حيث التدين الصارم، فالقيم الدينية هي قيم فردية لكل من يباشر أداء الشعائر الدينية بصدق وإخلاص وخشوع أي ان تلازم الفكر الإسلامي بالممارسة العبادية الحقة لا يتم إلا لدى القلة القليلة، فهذه القيم تهتم بالجوانب الروحية من الحياة، وتجعلها معياراً للقيم المادية، بينما الشرع يهتم بالظواهر المادية المحسوسة. ومن المعروف أن في المجتمع ثلاثة أنواع من القواعد العامة، هي: القواعد الدينية، والقواعد الأخلاقية والاجتماعية، والقواعد القانونية. ولعل القانون من أكثر هذه القواعد إلزاماً وسيطرة وتأثيراً في الفرد والجماعة على حد سواء. فقواعد الدين وهي ذات مصدر سماوي رباني تكون مقترنة بجزاء أخروي، ما لم تكن هناك سلطة دينية ومدنية تطبق القواعد الدينية، بينما القواعد الأخلاقية والاجتماعية منبثقة من المنظمة الأخلاقية للمجتمع، وهي تقترن بجزاء معنوي يتمثل في سخط الرأي العام أو غضب الجماعة البشرية، ومن ثم فإن هذا الجزاء ضعيف إذا ما قارناه بالجزاء القانوني، فان القواعد الاجتماعية المنبثقة من منظومات التقاليد والأعراف والعادات الاجتماعية هي الأخرى ذات تأثير معنوي في الأفراد والجماعات. والحقيقة أن هذه الدوائر الثلاث متشابكة، بيد أنها مستقلة، فبالنسبة لبلداننا العربية والإسلامية ما زالت تطبق الشريعة الإسلامية في مسائل الأحوال الشخصية الزواج، الطلاق، الميراث، النسب غير ان المشرع يأخذ بقدر قليل من القيم الدينية كوجوب رعاية الأبناء، ووجوب انفاق الأخ الموسر على أخيه العاجز المعسر، بيد ان القانون يقر سلوكاً يعد من الآثام أو الرذائل الدينية مثل الفائدة أو شرب الخمر. والحقيقة ان المشرع يستجيب للنواحي العلمية من أنشطة الجماعات والأفراد، فهو ينظم الأوضاع الاقتصادية والتجارية والمالية من دون أن يعير أهمية كبيرة للمسائل الأخلاقية أو الدينية، فبينما الدين يبقى في ذمة المدين من الناحيتين الدينية والأخلاقية إلى يوم القيامة، فإن استقرار الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية يدفع بالمشرع إلى وضع نظام التقادم المسقط، أي مرور عدد محدد من السنوات إذا لم يطالب الدائن في ظلها بدينه، فإن الدين يسقط قانوناً. وإن ارتأى المشرع مثلاً أن بعض القواعد الأخلاقية جديرة بالأخذ بها في المجال القانوني فانه يقننها، وتصبح جزءاً من النظام القانوني، ذلك ان التطور الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يحكم مسيرة المشرع الوطني فهو حر في الأخذ بما شاء من قواعد الدين والأخلاق أو في الاعراض عنهما، وقد يأخذ في هذه المرحلة التاريخية بقدر، ويتراجع في مرحلة تالية عنها وهكذا. وإذا أولى الدين اهتماماً بالمال فيكون اهتمامه من حيث الزكاة والاهتمام بأبناء السبيل والمساكين والفقراء، فالدين يرغب في تشذيب القيم المادية بحيث لا تصبح سلاحاً بيد الشيطان وانما أداة بيد أولي التقوى والورع فلا يقسم المال إلا وفق حقوق الله وحقوق البشر ومن دون إسراف، فالله لا يحب المسرفين. والقانون في جانب، مثلاً يقر بالفائدة التجارية لأنها من أعمدة النشاط التجاري والمالي السائد، وازدهار هذا النشاط يتوقف على جملة متغيرات لعل الفائدة من جملتها. كما ان القانون لا يتدخل في كل ما يعتبر من باب الحرية الفردية، وهناك مثلاً الدين الذي يبقى بحسب الشرع في ذمة المدين إلى يوم القيامة، أما المشرع فقد رغب في استقرار الأوضاع الاجتماعية ورفض بالتالي جعل الدين سيفاً مسلطاً على رقبة المدين إلى ما لا نهاية، وهكذا وضع مدة تقادم يسقط عند انتهائها أي دين إذا لم يطالب به في المدة المقررة 15 سنة مثلاً أما في ضوء القيم الدينية فإن الدين يبقى في ذمة المدين ما لم يسدده في يوم أو آخر. إذاً المنطلق النظري لكل من القانون والدين مختلف أما من حيث الممارسة أو التطبيق فكل منهما ينتمي إلى تجربة مغايرة عن الآخر. * مستشار قانوني