التراث هو ما تركه الأسلاف من شواهد ومنجزات في مختلف الحقول الفكرية والأثرية والمعنوية، أما الثقافة فهي كل ما كونته الأمة من أفكار ومعتقدات وآداب وفنون وكل ما يقدمه الفكر في مجالات الحياة المختلفة. ما لفت انتباهي وأثار حفيظتي ودعاني لاستهلال مقالتي بهذين التعريفين ما قرأته في إحدى الصحف العربية ? قبيل انطلاق المهرجان الوطني للتراث والثقافة ? من كلام يستوجب الاستهجان ويفتقر للضمير الثقافي والتاريخي. زعم الكاتب أن مهرجان الجنادرية لم يصل إلى حال المهرجانية الحقيقية، وأنه من الأجدى أن يكون فعالية تراثية وثقافية مختصرة عن كونه مهرجاناً متكاملاً، ويتابع الكاتب مبرراً فرضيته بأن تراث وثقافة المملكة العربية السعودية حديث الولادة جديد النشأة، ما ينعكس على الأداء العملي والتطبيق الفعلي فيستوجب الرفد من الخارج! كان الأولى بكاتب المقال أن يكتشف أن حديث الولادة وجديد النشأة هو معرفته وثقافته، وإلا فأين هو من التاريخ الإنساني الحضاري والثقافي الذي توالى على هذه الأرض منذ الوجود البشري إلى يومنا هذا، فكانت هذه الصحراء، وبإجماع علماء التاريخ والحضارات، الخزان والمنبع الذي ما فتئ يفيض بموجات الحضارة إلى ما حولها من جغرافيات، بداية من الموجة الآشورية والبابلية التي خرجت من شبه الجزيرة في الألف الرابع قبل الميلاد وتبعتها الموجة الكنعانية وما يندرج تحتها من شعوب فينيقية وعبرية ومؤابية، وبعدها بما يقارب العشرة قرون خرج الآراميون أيضاً من هذه الأرض، ونشروا أبجديتهم السريانية، فكان لها الفضل الأكبر على جل أبجديات الأمم الأخرى! كل هذه الموجات التي نشرتها هذه الأرض وامتدت إلى أصقاع الدنيا لم يمنعها من أن تنشئ فوق ترابها حضارات إنسانية وشواهد عمرانية وتيارات ثقافية ومدارس أدبية، بقيت آثارها شاخصة إلى يومنا هذا، فكانت هذه الصحراء المهد الأول للأدب العربي شعراً ونثراً، وما نتج عنهما وتطور منهما من فنون أدبية أخرى. وإذا كانت هذه الحقب أبعد من ذاكرة هذا الكاتب، المصابة بقصر النظر وضعف البصر، فأين هو من الفضل الذي اختص به الله عز وجل هذه الأرض - دون سواها - باصطفاء سيد الخلق وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم منها، فكان الدين الإسلامي وما لازمه على مر الحقب والعصور من ثقافة وتراث إسلامي نهلت منه - وما زالت - ثقافات وجامعات ممالك ودول حتى يومنا هذا. ولم تتوقف صحراؤنا عن النشوء والتطور الثقافي والتراثي حتى وقتنا الراهن، ونجد ذلك جلياً في القبيلة العربية وما يتخللها من قيم وأخلاق وأعراف وموروث فني وثقافي يستحق الوقوف عند عتباته الجمالية والإبداعية. وقد لا ننكر أن مخالب الضعف والمدنية باتت تنخر في جسد هذا الموروث العريق مهددة له بالزوال والانقراض، ولكن وقفة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز من هذا التراث كانت موقف وعي وإدراك لأهمية الحفاظ على خصوصية وجمالية تراثنا وثقافتنا التي يستمد كل منهما وجوده و بقاءه من الآخر، وضرورة المزج بينهما وردم الهوة المستحدثة التي أوجدها البعض من قليلي المعرفة والوعي بين الثقافة والتراث، فما كان من خادم الحرمين الشريفين إلا أن انتشلهما من هوة النسيان والغياب ? وكان وقتها رئيساً للحرس الوطني? فأمر بإقامة المهرجان الوطني للتراث والثقافة عام 1405 ه، وعياً منه بالقيمة التراثية والثقافية التي تختص بها هذه الأرض دون سواها وإيماناً منه بالدور المرجو من المملكة العربية السعودية، المهد الأول للثقافة والتراث العربي والإسلامي. فهذه النخبة الكبيرة من مثقفين وأدباء العرب عندما يأتون للمشاركة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة، فما ذلك إلا من منطلق ودافع وعيهم وإيمانهم بأن هذه الأرض كانت على مر العصور والحقب هي الأصل. د. صالح العبود كاتب وباحث سعودي [email protected]