يلعب مركز الطب الشرعي، الذي أنشئ منذ 30 عاماً في مدينة الرياض، دوراً مهماً في كشف الجرائم الغامضة، وأوقاتها وأسبابها، ويعرض عليه بين 4 و 5 آلاف حالة سنوياً. وأكد المدير العام لمركز الطب الشرعي، الاستشاري سعيد الغامدي، في حوار مع"الحياة"، أن المتخصصين في المركز لا يتوصلون في بعض الأحيان إلى سبب الوفاة، وهو ما يطلق عليه اسم"سلبية التشريح". وأشار إلى أن هناك ثلاث طرق رئيسة للانتحار، وأن الجسر المعلق في الرياض يعد من أخطر الأماكن التي يعمد إليها السعوديون الراغبون في الانتحار. وأضاف أن الطب الشرعي رصد عدداً من الأطفال الذين لقوا حتفهم على يد آبائهم بسبب استخدام العنف. ولفت إلى أن المناطق الحارة تكثر فيها حالات المشاجرات اليدوية، مشيراً إلى أن هذا العام شهد ازدياداً في حالات الطلق الناري بسبب الأعمال الإرهابية... وفي ما يأتي نص الحوار: هل تعطينا نبذة عن مركز الطب الشرعي؟ - أنشئ مركز الطب الشرعي في مدينة الرياض منذ 30 عاماً، ويغطي منطقة الرياض وضواحيها، وهو الجهة المسؤولة عن مساعدة جهات التحقيق في الوصول إلى سبب الوفاة ونوعها، ونقصد بسبب الوفاة جلطة في القلب أو نزيف أو اختناق مثلاً، أما نوع الوفاة فالمقصود بها أن الوفاة جنائية أو عرضية أو انتحارية أو مرضية. ما أكثر الحالات الجنائية التي ترد إلى الطب الشرعي؟ - جميع أنواع الجرائم اطلع عليها مركز الطب الشرعي، أما حجم الحالات فهي مختلفة من فترة إلى أخرى، ولاحظنا أن المناطق الحارة تكثر فيها حالات المشاجرات اليدوية، وفي هذه السنة حالات الطلق الناري هي الأكثر بسبب الأعمال الإرهابية، وتبلغ إجمالي الحالات الجنائية التي تعرض على مركز الطب البشري سنوياً بين 4 و 5 آلاف حالة. أما الحالات الجنائية كاستخدام السكين، فنجدها من جنسيات شرق آسيوية، ويغلب على السعوديين استخدام الأسلحة النارية، كما تنجم بعض حالات الوفاة عن استخدام المخدرات. وبصفة عامة لا نشرح جثث المتوفين بسبب المخدرات، لأن الأهل يعرفون عادة سبب وفاة ابنهم، ونحن نشجعهم على ذلك من مبدأ الستر، وللآسف أن وفيات المخدرات غالباً لا تكتشف إلا بعد أن تصاب الجثة بالتعفن في رابع يوم أو أكثر، وفي حالات كثيرة تجد هذه الجثث في مواقع مهجورة أو أحياء قديمة جداً. ذكرت أن هذه الجثث تصاب بالتعفن، كيف تتعرفون على هويتها؟ - الجهات الأمنية يكون لديها بلاغات من ذوي المتغيبين بأوصاف الأشخاص، فتتم مقارنة الجثث التي يتم العثور عليها مع الحمض النووي لأهله، وتظهر النتائج التي تكشف هوية الجثة. هل هناك واقعة أنقذ فيها الطب الشرعي حياة متهم بريء عن طريق تشريح الجثة؟ - هناك إحدى القضايا التي دارت أحداثها داخل خيمة، ووجدت آثار دمار وفوضى فيها، ثم وجد الشخص مليئاً بالدماء ومعلقاً في حال شنق، وكانت الشرطة اعتقلت عدداً من الأشخاص المحيطين به لاستكمال التحقيق، اعتقاداً منها بأنها قضية جنائية، أي قتل متعمد، وأثناء فحص المتخصصين في الطب الشرعي الجثة، وجدوا آثار طعنات كثيرة على جثة المجني عليه، ولم يكن هناك أي اثر لكدمات ناتجة عن مقاومة أو استخدام عنف، ما أدى إلى استنتاج أن الوفاة ناتجة من عملية انتحار. واستغربت الجهات الأمنية هذه النتائج، إذ كانت تتوقع أنه تعرض للقتل. ما أصعب الحالات الجنائية التي يتم تشريح جثثها لديكم؟ - المشاجرات اليدوية التي يشوبها الكثير من اللبس، وعدم اقتناع أهل المتوفى، والجهات الأمنية، بالنتائج التي يصل إليها الطب الشرعي، وعلى سبيل المثال، تجري مشاجرة بين شخصين فيموت أحدهما، فيشتبه ذووه والشرطة أنه قتل على أيدي من كان يتشاجر معهم، وبعد التشريح يتضح أنه توفي بسبب جلطة وليس بسبب مشاجرة، ويجب التنويه إلى أن هناك أشخاصاً مصابين بتصلب الشرايين، والمشاجرة تعجل إصابته بجلطة، ويأتي الشجار ليسرع حدوث الجلطات. هل الوفاة بالجلطة أثناء الشجار كثيرة الحدوث؟ - نعم، ومن واقع عملنا في الطب الشرعي وقفنا على حالات كثيرة، منها الكشف عن جثة لشاب توفي في ظروف مشاجرة قوية، وبعد كشف المختصين في الطب الشرعي اتضح أن السبب الرئيسي للوفاة كان الجلطة، والمشاجرة كانت عاملاً ثانوياً ساعد على سرعة حدوثها. ألم تكن هناك حالات وفاة أطفال نتيجة الإفراط في استخدام العنف من قبل آبائهم وأمهاتهم؟ - الطفل معرض منذ الصغر إلى الاضطهاد، سواء بالضرب أو التجويع أو الإهانة أو الاعتداء الجنسي، وسبق أن قمنا بتشريح جثث أطفال تعرضوا للعنف الجسدي، وكان من نتائج التحقيق أن غالبية الأطفال توفوا نتيجة ضربهم من آبائهم. على خلفية قضية الخادمة الإندونيسية التي ادعت أنها تعرضت للضرب؟ ماذا عن عنف الكفلاء مع خادماتهم؟ - من ضمن الحالات التي تحال إلى مركز الطب الشرعي وفاة خادمات نتيجة تعرضهن للضرب على يد كفلائهم، أو ربات البيوت التي يعملن فيها. ألم تكن هناك حالات واجهتم فيها صعوبة في تحديد سبب الوفاة؟ - هناك حالات نطلق عليها اسم"سلبية التشريح"، وهي وجود حالة نقوم بمعاينتها وفحصها بشكل دقيق، فلا نعثر على سبب واضح للوفاة، وسلبية التشريح تنفي الأشياء الجنائية الواضحة، ولا تنفي الأشياء المرضية، إلا أن الفحص أيضاً لا يؤكد وجود جلطة أو نزيف أو أي علة خطيرة في القلب، فيصعب تحديد سبب الوفاة. كم عدد العاملين في مركز الطب الشرعي؟ - هناك خمسة أطباء في تخصص الطب الشرعي في الرياض، إضافة إلى وجود فني تصوير وفني أشعة، و10 فنيين متخصصين في الوفيات التي تتبع الثلاجة واختصاصيين فنيين في مكافحة العدوى. والثلاجة التي لدينا تحتوي على 300 درج، وفي العام الواحد نستقبل من 4 آلاف إلى 5 آلاف حالة، وطبعاً لا يتجاوز عدد من يكشف عليهم الخبراء الشرعيون 500 حالة، ونقوم بعملية فلترة ل 800 حالة إضافية تأتي إلى المركز، فنكشف عليها ونحولها إلى الجهات الأخرى كإجراء روتيني. ما التخصصات الواجب توافرها حتى يكتمل عمل الطب الشرعي؟ - لا بد أن يتخصص الشخص في الطب الشرعي، وأن يحصل على درجة التخصص، دبلوم أو ماجستير أو دكتوراة، أما بالنسبة للفنيين فلا بد من وجود فنيي عمليات سبق لهم الخبرة في العمل التشريحي، إضافة إلى فنيي تمريض لازدياد الخبرة في الطب الشرعي. ويوجد في السعودية ما مجموعه 50 فنياً لديهم خبرة في الطب الشرعي. ماذا عن التحنيط، وهل يتم استخدامه في مركز الطب الشرعي ؟ - الجثث التي يتم ترحيلها إلى خارج المملكة يجب أن تحنط، ونظام التحنيط العلمي ينص على تفريغ جميع محتويات الجسم الداخلية من الدم ومحتويات البطن، وتعبأ مكانها مادة"الفورمالين"التي تمنع تطور العفن، ومن ثم وضعه في التابوت وإرساله إلى ذويه. ما دور مركز الطب الشرعي في الأخطاء الطبية؟ - يبدأ دورنا بعد الوفاة في حال وجود شبهة إهمال طبي، وطلب ذوي المتوفي تشريحه نقوم بفحصه، وفي كثير من الأحيان يكون هناك شكوى من المسؤولية الطبية، خصوصاً بعد إجراء العمليات فيعمد الأهل إلى دفن المتوفى، ويرفعون شكوى، ينتهي هنا دور الطب الشرعي وتتحول إلى اللجان الطبية الشرعية في جميع مديريات الشؤون الصحية، التي تقوم بدورها بتكوين لجنة تبحث خلفيات الموضوع من جميع جوانبه، وتضع الأمور في نصابها الصحيح، فتحيل الطبيب المسؤول عند وجود الخطأ الطبي إلى المحاسبة النظامية والقانونية. ماذا عن حالات الانتحار في السعودية؟ - من خلال خبرتنا في هذا المجال نقسم الانتحار إلى قسمين، انتحار للرجال والنساء، وأيضاً قسمان للرجال الأجانب والسعوديين، وبالنسبة إلى انتحار العمالة، خصوصاً الآسيوية منها، فمعظمها يرجع إلى الظروف المادية، مثلاً يأتي وافد ويعمل سنوات عدة فيفاجأ بأن إخوته اخذوا ما جمعه خلال سنوات العمل والمشقة وصرفوه، أو أن زوجته طلبت الطلاق وتزوجت بآخر، ووافد آخر باع كل ما لديه حتى يأتي إلى السعودية بغرض الحصول على فرصة عمل، فيفاجأ أن المقابل غير مجدٍ فينتحر، ما يعني أن الظروف المادية والاجتماعية للوافد هي السبب الأهم. بالنسبة للسعوديين غالبية المنتحرين يعانون من مرض نفسي، و99 في المئة منهم ينتحرون بالسقوط من الجسر المعلق في عريجا. وهناك فئة يفضلون الشنق لأنه أسرع وأسهل طريقة للوفاة، فخلال ثانية واحدة يغيب عن الوعي، وخلال ثلاث دقائق تتم الوفاة بشكل كامل، ولو تم إنقاذه خلال الدقيقة الأولى من الشنق سيعيش المنتحر مع إعاقة عقلية مستمرة. أما الانتحار عند النساء السعوديات فهي حالات نادرة جداً، إلا أنهن يعمدن إلى التهديد بالانتحار من خلال تناول الحبوب، وهي لا تصل إلى حالة الموت إذا تم إسعافها بشكل سريع، وبذلك تضغط على أهلها لتلبية مطالبها عن طريق استخدام التهديد فقط. والمرأة السعودية عندما ترغب في الانتحار فهي تعمد إلى طريقتين، إما إشعال النار أو رمي نفسها من أعلى المنزل، وغالباً بسبب أمراض نفسية كالاكتئاب. وتنتحر نساء شرق آسيا عن طريق رمي أنفسهن من أعلى المنزل إلى الأرض لأسباب اقتصادية وربما عائلية تخصها. يقال إن المنتحر يعمد قبل انتحاره إلى كتابة رسالة انتحار... لماذا؟ وألا تخشون أن يقوم احد المجرمين بارتكاب جريمة ويكتب رسالة للتمويه بأنه انتحار؟ - بالفعل غالبية المنتحرين، إن لم يكن جميعهم، يكتبون رسالة وداع، تحتوي على الأسباب التي أدت إلى الانتحار والتخلص من الحياة، ويطلب من ذويهم أن يسامحوه على ما بدر منه من أخطاء. وهي تبرير لقيامه بالانتحار. وهناك متخصصون في الأدلة الجنائية يقومون بمطابقة خط الكتابة والتأكد من أن المنتحر هو من كتبها، وهنا أؤكد أن أي شخص يتعرض للقتل ويتم التمويه من الجاني أنه انتحر، لا بد من وجود آثار للكدمات أو تمزق في ثياب المجني عليه، فلا يمكن أن يكون هناك من يحاول قتلك من دون أن تقاوم. ماذا عن قضايا الشرف والاغتصاب، كيف تتعاملون معها؟ - نتعامل معها بشكل خاص، وصدرت فتاوى شرعية حيال التعامل مع قضايا الشرف، فالنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب يعرضن على اختصاصية نساء وولادة لإجراء الكشف، وإذا كانت الحالة صعبة فيتم التعاون مع الطب الشرعي عن طريق الجهات الرسمية. ونتعامل مع كل حالة حسب ظروفها، كامرأة تدعي أنها تعرضت للاغتصاب قبل أشهر عدة، فنستطيع أن نحدد من غشاء البكارة متى تم انتهاكه أو تحديد المدة إذا كانت أقل من شهر، عن طريق التئام الجرح داخل المهبل. وفي حال وجود جثة فتاة تعرضت للقتل، نكشف عليها عن طريق المسحات لنتأكد من عدم وجود حيوانات منوية وعدم تعرضها للاغتصاب. إضافة إلى مناقشة الجهة التي أحالت الجثة للتعرف على ملابسات القضية، وهل هناك شكوك جنسية. دلائل يستند إليها متخصصون في تحديد سبب الوفاة أوضح المدير العام لمركز الطب الشرعي الاستشاري سعيد الغامدي، طريقة عمل الطبيب الشرعي في الكشف على الجثة، والتي تبدأ بمعاينة مكان المتوفى وتدوين معلومات عن موقع الجثة، وهل هي في موقع الوفاة أو نقلت، ثم وقت الوفاة والتغيرات الرمية على الجثة وهي التيبس الرمي والبرودة والرسوب الرمي. وأشار إلى أن تيبس الجثة يفيد في تحديد وقت الوفاة فالرأس يتيبس في وقت، والقدمان في وقت، والصدر في وقت، وبهذا يشاهد الطبيب أي جزء من الجسم تيبس أسرع فيحدد وقت الوفاة. وقال إن الطبيب الشرعي يحدد بعد ذلك"الرسوب الدموي"، وهو ترسب الدم أسفل الجثة إذ يستغرق نحو ثماني ساعات، وفي ضوء كمية الرسوب الدموي يستطيع تحديد وقت الوفاة، كما أن الجثة عندما تتيبس، وخصوصاً في الصيف تصبح رخوة وتبدأ في التعفن ما يعطي دلالات واضحة على تحديد زمن الوفاة. وقال الغامدي إن الطبيب يعطي سبب الوفاة من طريق الكشف على مسرح الجريمة وفحص الملابس وهل يوجد أثر تمزق أو دم أو جري على الأسفلت، وتفحص الجثة بعد تنظيفها وترصد آثار السحجات أو الطعن أو الكدمات والطلقات النارية وغيرها، ثم تطلب مذكرة تفصيلية من الجهات الأمنية يوضحون فيها كيف عثروا على المتوفى ومتى وجدوه، وفي ضوء ذلك يشرّح الأطباء الشرعيون الجثمان، وتظهر النتائج بعدها موضوعية التقرير أو لا. وضرب الغامدي مثالاً على اختلاف تقرير الطب الشرعي مع تقرير الجهات الأمنية"يحتوي تقرير تقدمت به الجهات الأمنية أن هناك شجاراً سبق الوفاة إلا أن التشريح يكشف حدوث جلطة هي سبب الوفاة وليست المشاجرة". وقال في مثال آخر:"في حادثة سابقة تشاجر اثنان وحصل تبادل لإطلاق النار وأتى آخر إلى أحد المتخاصمين وأطلق النار من مسافة 50 متراً فأتت الرصاصة من الخلف، واعتقد في بادئ الأمر أن الخصم هو من قتل ذلك الشخص إلا أن الطب الشرعي استطاع أن يحدد مسافة إطلاق النار من طريق آثار البارود على الجثة واتساع الجرح وطريقة اتجاه الرصاصة، ولو كان الجاني قريباً من المجني عليه ستجد آثار البارود منتشرة في شكل كبير حول فتحة دخول الرصاصة، إضافة إلى رائحة البارود".