فجأة ومن دون سابق إنذار تخلى أبنائي عن الحديث الدائم عن البرامج المنتظرة لقضاء إجازة نصف العام بعد انتهاء الامتحانات، ونحوا جانباً ألعاب الكومبيوتر والبلاي ستيشن، وسألوني في صوت واحد:"تفتكر المقاطعة يا بابا ستحقق نتيجة؟ وهل هي كفاية؟ وبلدنا عملت إيه؟ وحضرتك عملت إيه؟ واحنا هنعمل إيه؟" وقبل أن أفيق من سيل الأسئلة، أمطروني بعشرات الأوراق المصورة التي جمعوها من مواقع الانترنت المختلفة. هذه تحوي بعض الرسوم الكاريكاتيرية المشينة التي تسيء لرسولنا الكريم، وأخرى ضمت قائمة طويلة من اسماء السلع والمنتجات والأدوات والمعدات الدنماركية، وثالثة تتضمن خطباً دينية في وجوب الدفاع عن رسول الله، ورابعة تحوي قصيدة جادت بها قريحة محب، يزود بها عن سيد الخلق أجمعين، عليه الصلاة والسلام، وخامسة تتضمن نصوصاً على لسان ساسة وصحافيي الدنمارك بل ورئاسة الاتحاد الأوروبي، وتدور كلها حول الدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة...! وتهكم واضح من هؤلاء المسلمين الذين يضفون قدسية على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم! في البداية، هالني حجم الاهتمام الذي نزل فجأة على الأبناء! وقبل أن استفهم منهم، في خبث مصطنع، متى ظهرت عليهم عوارض الاهتمام بالسياسة؟ عاجلوني وقد قرأوا الاستغراب في عيني بعبارة ولا أروع"إلا رسول الله... يا بابا". أصدقكم القول، عندي رغبة عارمة، قد لا تتوافر عند أي مسلم على وجه الارض، في أن أوجه رسالة شكر حارة للغاية لصحيفة"جولاندز- بوسطن"Jyllands-Posten الدنماركية على ما نجحت فيه عن جدارة بغباء لا نحسدها عليه - وندعو الله أن يديمه عليها وعلى أمثالها، في ادخال اولادنا إلى عالم السياسة من اوسع الأبواب، بعد أن يئست من قدرتي على اقناعهم بذلك على مدى سنين، فهم أبناء جيلهم الذي بدا أنه طلق السياسة قبل أن يقترن بها، فجاءت الصحيفة واشهرت عقد قرانهم وزفافهم في ليلة واحدة إلى عالم السياسة عبر بوابته الملكية، واعني بها الدفاع عن نبي الاسلام، رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه الأحداث الجسام هي التي تشكل وعي ابنائنا، وهي التي تجعلهم يهتمون بشأن الأمة العربية والإسلامية، بعد أن عمدت معظم القنوات الفضائية إلى تهميش اهتماماتهم وتسطيح قضاياهم، من خلال بث وتركيز متعمد على حياة المشاهير من المطربين والمطربات ونجوم الرياضة من اللاعبين، حتى بات معظم الشباب من الجنسين على دراية تامة بأدق تفاصيل هذه الشخصيات، التي اقل ما يقال عنها انها لم تضع لبنة واحدة في بناء المجتمع وتقدمه ولحاقه بركب الحضارة والتطور التكنولوجي. وعلى ذكر الأحداث المهمة التي وضعت ابناءنا على مفترق طرق، وأسهمت في إحياء قضايا الأمة في نفوس ابناء هذا الجيل، من دون أن يقصد مرتكبوها ذلك بالطبع، استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة برصاص الإسرائيليين الجبناء، وانسحاب جيش الاحتلال الصهيوني من جنوبلبنان واستشهاد مؤسس حركة المقاومة الاسلامية في فلسطين حماس الشيخ أحمد ياسين. بأبي أنت وأمي يا رسول الله... شهدنا جميعاً تسابقاً محموماً من رجال أعمال شرفاء لسحب جميع المنتجات الدنماركية من الأسواق كإحدى وسائل ضغط المجتمع المدني على الحكومة الدنماركية، لوضع حد لهذا العبث المزعوم باسم حرية التعبير، التي لا نسمع لها صوتاً عندما يتعلق الأمر بأي مساس من قريب أو بعيد باليهود ومعاداة السامية والهولوكست. وفي الوقت نفسه، سارعت الشركات العالمية على نحو مذعور للاعلان في الصحف عن براءة منتجاتها من أية علاقة بالدنمارك، ونترك للقارئ الحصيف استنتاج الدلالات الكافية من هذا التصرف، ليدرك حجم وقدر سلاح المقاطعة الذي بحوزته، ومدى خطورة مجرد التلويح باستخدامه. فلتكن هذه الحادثة بمثابة عبرة لنا وتثمين لقيمة تحركنا الجماعي الايجابي. الأمر الذي لفت انتباهي واهتمام غيري أيضاً هو حجم المنتجات الأجنبية التي اغرقت اسواقنا، بل واتخذ بعضها اسماءً محلية، لنصحو جميعاً على هول المفاجأة، ونتساءل في صوت واحد: أين صناعتنا المحلية الحقيقية؟ ومتى نبني بسواعدنا ونأكل من صنع أيدينا ولا نبني اقتصاديات اعدائنا من جيوبنا؟ الرياض - أحمد أبو زيد