اكتشاف قمتين أطول من إيفرست ب100 مرة !    مصر: التحقيق مع فرد أمن هدد فنانة مصرية    حورية فرغلي تستعد لتركيب «أنف اصطناعي»    التحكم في الكمبيوتر بإيماءات الوجه !    عمال يحصلون على 100 ضعف رواتبهم.. ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانهم؟    الموسيقار العالمي هانز زيمر يبهر جمهور "موسم الرياض" في ليلة ابداعية..    وصول الوفود المشاركة في مؤتمر آسيان الثالث "خير أمة" بمملكة تايلند    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    محمد بن عبدالعزيز يشكر القيادة لتمديد خدمته نائباً لأمير جازان    حكومة اليمن تدعو لتصنيف الحوثي «منظمة إرهابية عالمية»    إدارة ترامب تغير رسميا اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا    الشباب يحصل على شهادة الكفاءة المالية    «ميتا» تعتزم استثمار أكثر من 60 مليار دولار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي    فريق برادي يتصدر التصفيات التأهيلية لبطولة القوارب الكهربائية السريعة "E1"    مدرب الأهلي "ماتياس": الجميع يعمل لتدعيم صفوف الفريق    بعد «سره الباتع».. فيلم جديد يجمع رانيا التومي مع خالد يوسف    شامخات القصيد في معرض الكتاب بالقاهرة.    الربيعي تحصل على المركز الثاني في مسابقة بيبراس للمعلوماتيه    "الأهلي" يكشف أساطيره في "أسبوع الأساطير"    مدير عام تعليم الطائف التعليم استثمار في المستقبل وتحقيق لرؤية 2030    وزير المالية: استثماراتنا في أمريكا تفوق 770 مليار دولار    منح وزير الشؤون الإسلامية وشاح الطبقة الأولى للشخصية الإسلامية العالمية المؤثرة لعام 2024    محمد بن عبدالعزيز يشكر القيادة بمناسبة تمديد خدمته نائبًا لأمير جازان    جامعة الملك عبد العزيز تطلق مبادرة لتطوير مهارات الطلاب والطالبات في مجال الذكاء الاصطناعي الأولى من نوعها على مستوى الشرق الأوسط    الأمير محمد بن سلمان يُعزي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ فاضل الصباح    أمير حائل يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تمديد خدمته أميرًا للمنطقة    أعراض غير نمطية لتصلب الشرايين    الأولمبياد الخاص السعودي يختتم المسابقات الوطنية للقوة البدنية والسباحة بالرياض    الجبير يُشارك في جلسة حوارية في منتدى دافوس بعنوان «حماية البيئة لحفظ الأمن»    النصر يحضر عرضه الرسمي من أجل دوران    «سلمان للإغاثة» يوزع مستلزمات تعليمية متنوعة لدعم مدارس محو الأمية ومراكز ذوي الإعاقة في اليمن    40 ألف ريال تكاليف ليلة الحناء    ترمب يلغي الحماية الأمنية عن فاوتشي: «ليحمي نفسه»    المملكة تعلن عن استضافة اجتماع عالمي دوري للمنتدى الاقتصادي العالمي    القصيبي مسيرة عطاء    قائد الإدارة الجديدة في سوريا يستقبل وزير الخارجية فيصل بن فرحان    آل سمره يقدمون شكرهم لأمير نجران على تعازيه في والدهم    الجوف: القبض على شخصين لترويجهما أقراصا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    عبد العزيز بن سعد يشكر القيادة لتمديد خدمته أميراً لحائل    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الإساءة إلى جيرانكم وأحسنوا لهم    أكثر من 20 ألف جولة رقابية تنفذها بلدية محافظة الأسياح لعام 2024م    خطيب المسجد الحرام: حسن الظن بالله عبادة عظيمة    الذهب يسجل أعلى مستوى في 3 أشهر مع ضعف الدولار وعدم وضوح الرسوم    إحباط محاولة تهريب أكثر من مليون و400 ألف حبة "كبتاجون"    ترمب يشدد على إنهاء حرب أوكرانيا ويلوح بفرض جمارك ضخمة    المشي حافياً في المنزل ضار للقدمين    العمل المكتبي يُبطئ الحركة ويزيد الأرق    %2 نموا بمؤشر التوظيف في المملكة    400 مشارك في جائزة "تمكين الأيتام "    الثنائية تطاردنا    تاريخ محفوظ لوطن محظوظ برجاله..    أعطته (كليتها) فتزوج صديقتها !    السياسة وعلم النفس!    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة فيفا    الملك وولي العهد يعزيان رئيس منغوليا في وفاة رئيس منغوليا الأسبق    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين ك"منظمة إرهابية أجنبية"    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    الإرجاف أفعى تستهدف بسمّها الأمن الوطني..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خلف الأسوار ... تاريخ نفساني و"مدعو نبوة" وآخرون "يرون شياطين". مستشفى "شهار" في الطائف ... مرضى نفسيون في عالم خاص تحاصره ريبة المجتمع 1- 3
نشر في الحياة يوم 17 - 04 - 2005

حرارة الشمس تغمر الطائف، على رغم أنها مدينة باردة مقارنة بمدن السعودية الأخرى. وتغمر الأرض خلف أسوار مستشفى الصحة النفسية شهار، ومواقف سيارات موظفيها وزائري مرضاها. حرارتها - الشمس - لا تختلف في"البخشات"أو غرف تشميس المرضى. هذه الغرف، حيث يشعر المريض أنه على كوكب تصل إليه أشعة الشمس، غرفٌ غير مسقوفة. طبعاً ذلك مقصود. ف"أشعة الشمس يجب أن تلامس جسد المريض، في أوقات محددة"، حتى لو لم يكن يشعر بها.
نحن في مكتب مساعد مدير المستشفى يوسف الغامدي. المكتب في بناية الإدارة. البناية منفصلة، عن بناية أجنحة"عنابر"المرضى. الغامدي يختار كرسياً آخر غير كرسيه، ربما ليكون قريباً. ويسأل:"ماذا تتوقع أن ترى؟".
إدارة المستشفى ووزارة الشؤون الصحية رفضا فكرة أن نبيت يوماً أو اثنين مع المرضى. الإدارة والوزارة"لا يعرفان ما يمكن أن يفعله مريض نفسي، بل لا يملكان ضمان سلامة دخيل يحاول استنطاق المرضى". إضافة إلى أن لهؤلاء المرضى وذويهم خصوصية،"لا يمكن لأحد الموافقة على اقتحامها".
لكنهما رحبا بأن نكتب عن معاناتهم - المرضى. اعتبرا ذلك من وسائل توعية المجتمع. وبذلك تكون تمضية يوم من دون مبيت في مستشفى الأمراض النفسية في الطائف، حلاً وسطاً، للكلام عن معاناة أشخاص بعضهم من دون عائلات، على رغم وجودها. طالما أن عائلتك لا تعترف بك، ما الفرق إن كانت موجودة أم لا؟ طالما أنها لن تمشي في جنازتك، ما الفرق إن زاروك أم لم يفعلوا؟
المعاناة لا تقف عند هذا الحد، وليس بالضرورة أن تكون هناك قصة، كي تصبح مريضاً نفسياً! ومع ذلك، ف"هناك سلبيات سببها مجتمع وثقافته وأيديولوجيته وإيمانه أيضاً". هل يستحق أولئك الأفراد - المرضى - الكتابة عنهم؟ هل يهم أن نعرف كيف يعيشون ويأكلون ويفكرون؟ ما هي أمنياتهم؟ من أين جاؤوا وإلى أين ينتهون؟... على أي حال، تظل"شهار"أشهر مستشفى نفسي في السعودية، على غرار"السرايا الصفرة"في مصر و"العصفورية"في لبنان وسورية. واسمها - شهار- مبعث إشارات تثير الضحك بين السعوديين أحياناً، ومنطلق لتوزيع النكات أيضاً. لكن، أين نجد ما يثير الضحك داخلها؟!
الدكتور يوسف يسأل:"هل تناولت وجبة إفطارك؟"، ويطمئن حين يسمع النفي، فهو يخشى استفراغ ما في بطن من لم يعتد على رؤية مشاهد ربما يسجل بعضها...
نعبر مواقف السيارات، في الوقت الذي تجاوز الدكتور يوسف سؤاله:"ماذا تتوقع أن ترى؟". هو يعرف الآن ماذا يفعل."سنبدأ من النهاية، من النتيجة التي نحاول أن لا يصل المرضى إليها". لكن، قبل ذلك، نمر على حالات خاصة."من المفترض أن تكون هذه الحالات في مكان آخر. هؤلاء يعتبرون من ذوي الاحتياجات الخاصة. هم متخلفون عقلياً".
وبالتالي فرعايتهم مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية، لا الشؤون الصحية. لكن الأخيرة"ترعاهم منذ وقت لم تتوسع فيه خدمات الشؤون الاجتماعية"، هذه حجة تمنع نقلهم وملفاتهم من المستشفى التي هي في حاجة إلى كل سرير إضافي.
نصل إلى الجناح"العنبر"المقصود. يطرق الدكتور يوسف الباب، ويضغط على الجرس الكهربائي. الموظف الذي سيفتح الباب"مريض في المستشفى من جناح آخر. هو مؤهل، بحسب لجنة خاصة تقرر ذلك، للعمل ولا خطر منه. والمرتب الذي يحصل عليه، يسمح له باقتناء بعض حاجيات يرغب فيها، في حال خرج متنزهاً أو للشراء تحديداً". هو يعود في نهاية المطاف إلى المستشفى، إذ لا يعرف مأوىً غيرها، خصوصاً إذا كانت حالته لا تسمح له تماماً بالاختلاط بالمجتمع، أو أن أهله رفضوا استلامه. لكن حاله بالتأكيد أفضل ممن لا يُعرف لهم أهل!
نشأوا هنا
الدكتور يوسف يقول شيئاً عن تاريخ المستشفى الطويل، الممتد نحو ثلاثة عقود، ما يعني أن معظم من سنراه في هذا الجناح نشأ هنا. يسأل الدكتور مرة أخرى:"هل أنت جاهز لترى هذا؟".
ندخل إلى الغرفة المفترضة داخل الجناح. رجالٌ نحيلون, حركة أجسامهم غريبة, يستلقون على الأسرة. أجهزة تلتصق بهم، كأننا في عناية مركزة، من المستوى البسيط. تقترب قليلاً، كي تكتشف أن لا أحياء. مجرد أجساد تتحرك عيونها، أو بعض أطرافها لا إرادياً.
الدكتور يوسف يتحدث عن أن العناية التي يلقونها هنا، لن يجدوها في مكان آخر."الممرضات والممرضون، يشعرون بهم. وحين نقلوا إلى مستشفيات أخرى ساءت حالتهم".
طبيب الجناح يدخل. يسأله الدكتور يوسف:"منذ متى وهؤلاء هنا؟"طبعاً هو يعرف، لكنه سأله لنعرف نحن. الطبيب يجيب:"منذ أن جئت إلى السعودية. تربينا معاً". الطبيب يعمل في المستشفى منذ أكثر من ربع قرن. يتكلم عن نشأة وتربية، وزمالة في المكان والحياة لزمن طويل.
بعض أولئك المرضى - ذوي الاحتياجات الخاصة - من دون أصابع أو يعانون من عاهة أخرى. معظمهم من كبار السن، حين تشاهدهم تعرف أن مكانهم ليس هنا. لكن القدر قادهم إلى مكان لا يعرفون متى يخرجون منه، هذا إذا كانوا يهتمون أو يفهمون.
"في بعض الأحيان، لا نجد من يمشي في جنازتهم، أو يتولى دفنهم. نستأذن من الأمارة في دفنهم". يوسف يستدرك:"نحن نحدّث بيانات عائلاتهم عنوان السكن وأرقام الهواتف باستمرار، لكن بعضهم ينزل في المستشفى منذ زمن طويل، ويصعب تحديث بياناته، إذ نكتشف أن آخر تحديث، غير صحيح".
يقطع حديثنا طبيبان آخران، أحدهما أخصائي قلب والآخر صدر من إحدى المستشفيات الحكومية، يجيئان من فترة إلى أخرى للكشف على أحياء لا يبدون كذلك.
هؤلاء - ذوي الاحتياجات الخاصة - يشغلون جناحين، لا يختلفان كثيراً عن بعضهما سوى في وجوه المرضى والعاملين. المفترض أن يكون على هذه الأسرة مرضى من نوع آخر، وليس هؤلاء.
متطلباتهم
ذوي
الاحتياجات الخاصة، ليسوا الوحيدين الذين نشأوا في المستشفى، فكثير من مرضى الفصام أو الذهان يسكنون فيه منذ أكثر من عقد أو عقدين. جناح آخر مخصص للحالات المزمنة والحادة. تتساءل من جديد، خصوصاً حين تسمع كلمتي مزمن أو حاد:"هل سيؤذونك في غفلة من الأطباء أو المرضى؟".
أفكار ووساوس كثيرة تتردد في ذهنك، بينما الدكتور يوسف يطرق باب الجناح ويضغط على الجرس.
هذه المرة المريض الموظف الذي سيفتح الباب، له قصة. هو مؤهل للخروج والاختلاط بالمجتمع، طالما أنه يعمل، لكنه يحب كتابة الشكاوى والمتطلبات، ما يزعج كثيرين.
كان من المفترض أن يكون أحد خريجي كلية الطب، لكن الفصام قاده إلى مستشفى الأمراض العقلية.
الدكتور يوسف يقول عنه:"إنه يفهم في متطلبات مرضى الجناح أكثر من بعض الأخصائيين، أحياناً".
يسلم علينا. يرحب بالدكتور يوسف، ويسأله أسئلة كثيرة. يوسف يقول له، تكلم ل"الحياة"عن متطلباتك والمرضى.
المريض يسأل:"أليس ممنوعاً أن نتحدث إلى الصحافة؟". نضحك ويضيف يوسف:"بصفتي مساعد مدير المستشفى، أسمح لك بذلك، قل لهم عن كل ما تحتاجون إليه". يبدأ المريض بالحديث:"أعتقد أن مشكلة المطر هي الأهم".
الدكتور يوسف يرد:"ألم يحل موظفو الصيانة المشكلة؟ بحسب علمي، وضعوا عازلاً يمنع تسرب ماء المطر إليكم". يبتسم المريض ويقول بالفصحى:"نعم يا سيدي، لكن أنت تذكر اقتراحي. حتى العازل الذي وضعوه لا يمكنه المقاومة طويلاً. أنا أقترح أن تضعوا قرميداً أحمر فوق أسقف المستشفى، كما يحصل في تركيا ودول أخرى. فالقرميد أفضل عازل لماء المطر".
عائلات ترفض استقبالهم
المريض - الموظف، لا يريد غير القرميد. يقول:"إن هذا مطلبي الوحيد حتى الآن، وإذا كان هناك مطلب آخر سأزورك يا دكتور يوسف في مكتبك، وسأكتب خطاباً فيه كل طلباتنا". الجزء الأخير ? كتابة الخطابات ? هو الأهم بالنسبة اليه، بل هوايته. هو مريض بالفصام، لكنه شفي إلى حد ما. معظم الأطباء هناك يتحدثون عن"صعوبة شفاء مرضى الفصام أو الذهان، تماماً"، لكنهم يحاولون الوصول بالمريض إلى حالة مستقرة تسمح له بالرجوع إلى المجتمع مرة أخرى.
المجتمع الذي يمكن أن لا يقبله. أو ربما يُهيأ للمريض أن المجتمع لا يقبله. لكن، هل يعني ذلك أن المجتمع بريء؟"في أحيان كثيرة ترفض العائلات، استقبال مرضاها، على رغم أن المستشفى يوصله إلى المنزل". ربما هي - العائلات - تبحث عن الراحة، لا تريد حمل هم مريض نفسي، ففي رأيهم:"الدولة هي المسؤولة عن مرضانا"!
بعض أفراد المجتمع يسعون بقدر الإمكان، وبكل الطرق، إلى إرجاع مرضاهم، حتى لو كلفهم ذلك الاتصال بكل من يعرفون. وكلمات مثل:"هذا مريض نفسي وخطير، ونخشى عليه ومنه"، كفيلة بأن تحول أي مريض من بيته الى المستشفى من جديد.
لكن، حين ترى من يعتقد أنهم مرضى خطيرون، تكتشف أن أذاهم لا يمتد دائماً إلى غيرهم.
هم يشبهوننا تماماً. بعضهم يؤذي في حال استفزازه أو إثارته، وبعضهم يتغاضى عن كل شيء، حتى إذا أهنته.
مرضى الفصام
هناك اعتقاد سائد بأن الفصام يعني تحول المريض من شخصية إلى أخرى، تماماً مثلما حدث مع جيم كيري في فيلم"القناع"حين يلبسه. جيم كان ينسى كل ما يفعله حين يخلع القناع. معظم الأفلام الهوليوودية، تعرف الفصام بالمعنى نفسه، حتى الافلام المصرية أيضاً. لكن، الفصام شيء مختلف تماماً، وأنواعه كثيرة. الدكتور يوسف يذكر إجابة أستاذه في الجامعة، حين سأل أحد الطلاب عن معنى الفصام. الأستاذ يقول:"الإنسان يرسم دائرة، ويجلس داخلها، ليصبح مريضاً يرفض دخول أحد إلى عالمه"، هذا هو الفصام.
ربما تقنع بذلك حين تدخل إلى الأجنحة، حين ترى كل مريض يجلس وحده. يرسم تلك الدائرة الوهمية التي يتكلمون عنها. بعضهم مقيد بأربطة قطنية لينة، مخافة ان يؤذي نفسه، وهناك من يربط على الكرسي خوفاً من سقوطه، وهناك من يربط إلى النافذة كي لا يقترب من الآخرين ويؤذيهم. وهناك من يقيد بطريقة تحول دون تمكينه من ضرب رأسه برخام الارضية. لكن سواء ربطوا ام لا، يفضلون البقاء داخل تلك الدائرة التي يرسمونها، لا يخرجون منها، ولا يسمحون لأحد بالدخول. حين تتجول في العنابر تكتشف أن معظمهم غير مؤذ. هم يخافون من غيرهم، يخافون أن يقتحم أحد دائرتهم.
محكومون وشبان
أجنحة أخرى خاصة بمحكومين، تُعرف بقسم الطب الشرعي. هناك يُكشف على حالات ارتكبت جرائم ويعتقد أنها مريضة، لتخفيف الحكم عليها في حال ثبت المرض.
بعد أن يمضي المريض منهم حكمه المخفف في السجن، يعود إلى المستشفى من جديد للتأكد من أهليته وامكان اختلاطه بالمجتمع.
معظم المرضى الذين يتقرر سكنهم لفترات طويلة في أجنحة المستشفى، هم من مرضى الفصام أو الذهان.
من النادر أن تجد مرضى الاكتئاب. هؤلاء الأخيرين في مكان آخر، في بناية منفصلة، قريبة من عيادات الدخول.
هناك جناحان يعرف أحدهما ب"الدخول"وهو أول جناح يدخله المريض في المستشفى. وجناح يعرف ب"التهيئة"، وهو الجناح الذي يجهز المريض فيه للخروج.
جناح الدخول مزدهر بالعشرينيين. كيف وصل الشبان إلى هنا؟ هل لقصص الحب أو الزواج أو عنف الأهل دور؟ بعضهم حاول الانتحار، ومنهم من يدعي النبوة ويكلم الأنبياء والرسل. وآخرون يرون الشياطين تتمثل في أجساد أقاربهم... لا يزال هناك ما يكتب...
عزلة تباغت الجسم ... وسيجارة تخرجه منها
مرض الفصام أو الذهان، أين ينتهي بجسم الإنسان؟ بعد نهايته، كيف يحيا المريض؟ المهم الآن أن ينتهي. أن يستطيع الأطباء تشخيصه والوصول إلى علاجه. أن يتوقف هدر العقول."هدر العقول"! هذه العبارة هل تشبه"هدر الدم"؟ لكن، ماذا يصنع الإنسان أمام موت يتكرر؟ ما الفرق بين أن تموت برصاصة، أو أن تفقد عقلك بمرض"أخطر من السرطان". الفصام يصل بالمريض إلى جسم مكسور, ومحطم, مجرد دم يجري داخل بشر يعيش في عزلة.
ربما اختار المرضى العزلة بأنفسهم وربما فرضت عليهم من"القدر". الدكتور يوسف يصل بنا إلى جناح مرضى قضى المرض على حياتهم وأمنياتهم. قبل أن ندخل، يكرر:"هذا ما لا نريد أن يصل إليه مرضانا الجدد". نحاول أن نساعدهم - الجدد - بكل أدوية الطب النفسي الحديث، وما وصل إليه من نتائج حديثة. التقنية والتطور يساعدان أيضاً.
لكن، المرضى الذين سنراهم الآن، لم يلحقوا زمناً تطور فيه العلم ? إلى أي مدى تطور الطب النفسي؟ يظل هو"الأعقد من بين تخصصات الطب الأخرى، والأبطأ في التطور".
يفتح الباب. مسنون في كل مكان. بعضهم رسم دائرته الوهمية فعلاً وجلس فيها. وبعضهم اعتبر الجناح برمته دائرته الخاصة. يستقبلنا مريض، يسلم علينا، ويقبل رأسينا. يطلب ريالاً واحداً. كثر هم الذين يطلبون الريالات. هل تفيد النقود في مثل حالاتهم؟ هم لا يطلبونها لشيء سوى لشراء بضع سجائر. التدخين منفذهم الوحيد من العزلة. طبعاً، وزارة الشؤون الصحية في السعودية، ترفض فكرة التدخين، على رغم أنه يخفف من أعراض جانبية تسببها بعض الأدوية. ليس لأنه يحتوي على النيكوتين المهدئ فقط، بل لأنه يساعد على زيادة إفرازات الكبد. هذه الإفرازات تمنع التشنج الذي قد تتسبب به أنواع محددة من العلاج. كل ذلك موجود في دراسات نفسية كثيرة، ويتعلق بالمرضى المدخنين فقط، ليس من لا يدخن منهم في الأساس. ثم أليس المرضى النفسيون"مرفوع عنهم القلم"؟
التدخين ليس الأمنية الوحيدة التي يتمناها هؤلاء. الدكتور يوسف يسأل مجموعة منهم، بود واضح:"ماذا تريدون؟ ما أمنياتكم؟ هل ينقصكم أي شيء؟". بعضهم يقبل رأس الدكتور، عنوة، ويشكره. وآخرون يقولون إنهم لا يريدون شيئاً سوى الأكل والتدخين والصلاة. لا أمنيات تذكر هنا. لا حياة ينظر إليها."الفصام"عدو الإنسانية، يقتل العقول، أهم ما في جسم الإنسان. يباغت الجسم ويقضي عليه، في غفلة منه!
حين لا تستحي من أن تكون عارياً !
ننظر إلى مريض من دون ملابس. نصف جسده معرض للشمس، والنصف السفلي داخل العنبر. يجلس على خط مدخل الباب. يتكئ على مرفقيه ويضم ركبتيه إلى صدره. ضوء الشمس ينعكس على جسدِهِ الأسمر ورأس بالكاد يظهر من وراء ركبتين نحيلتين. ربما كان يشعر بالراحة تحت الشمس. ينظر إلينا أيضاً. تشعر بالرهبة للحظة. هل يمكن أن يتحرك من مكانه ليؤذينا؟ هو الشعور ذاته، حين يقترب منك أي من المرضى. الطبيب يقول:"لا يمكن لأحد أن يرغمه على ما لا يريد". يبدو هادئاً جداً، لا يستطيع تغيير طريقة جلسته.
كلما ظهر مريض تساءلت عن قصته التي جاءت به إلى هنا. لاحقاً سأعرف أنه ليس هناك بالضرورة سبب أو قصة مأسوية. كلهم هنا، لأنهم يجب أن يكونوا هنا!"الأمر يتعلق بمدى قابليتهم للمرض"، هكذا يقول معظم الأطباء.
الصوت لا يسمع في معظم العنابر. تظن للوهلة الأولى أنها خالية، ليس سوى صوت التلفزيون، تحديداً القناة الأولى السعودية. يختلط صمت المرضى في فضاء يحاول العاملون في المستشفى المحافظة على هدوئه. أفكارهم تتمازج النجدي والجداوي والشرقاوي والمدني والجنوبي والشمالي، يصعب حصرهم. كل منا يمكن أن يكون هناك، إذا كانت قابليته للمرض عالية.
الوقت تجاوز الظهر، وسكان العنابر تناولوا وجبة الغداء للتو، لكن معظمهم لا يذهبون إلى النوم. ليس لأنهم لا يريدون، بل لأن المشرف على العنبر يحاول أن يُسهل عملية إقناعهم بالنوم ليلاً. كأننا في"حضانة". أن تضطر إلى السهر لأن احدهم لم ينم، أمر مزعج بالنسبة إلى أي شخص.
في عالمهم لا مطاعم ولا مقاهي ولا شوارع و لا أرصفة، لا تقطع بيتزا بشوكة وسكين، إن كان هناك بيتزا. يسمح في بعض الأحيان بخروج من هو أهل للتنزه."المهم أن لا يؤذي أحداً، وأن تكون حاله مستقرة". شبان وشابات، رجال ونساء، مسنون ومسنات، لا يستقبلون سوى من هم فوق ال16. روائح طعام وأجسام المرضى وأدوية المستشفى، تفوح في كل مكان. ليست كريهة، لكنها تذكرك أنك في المستشفى. تدخل أحد العنابر، لتعرف بواسطة الطبيب أنه كان غارقاً في الصباح بروائح، تمنعك من التفكير في الدخول. الممرضون والممرضات والعاملون وحدهم يتحملونها، ويعرفون ما يجب عليهم القيام به كل صباح.
تعبر الممرات خارج العنابر، موسيقى الصمت، تذكرك بما في داخل العنابر. تحدث نفسك"طالما أنه لا وجود للعيب هنا، طالما أن العادات والتقاليد والحياء ليسوا ضرورة، فما الذي يمنعك من أن تتبول أو تتبرز في أي مكان؟ سواء شعرت بذلك أم لم تشعر، لن ينظر إليك أحد، ولن يصوب عينه نحوك متعجباً. إذاً، فلمَ تستحي أن تكون عارياً؟ إن كنت تعرف أصلا أنك عار"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.