دون ارتباط بتاريخ أو أحداث معاصرة، ولد في جدة شارع "التحلية"، وحملت "الكنداسة" مصدر الماء العذب لأهل"عروس البحر الأحمر"، في حقبة زمنية مضت، لتكون رمزاً للشارع، الذي آل اسمه قبل أعوام قليلة إلى شارع الأمير محمد بن عبدالعزيز. بعد 20 عاماً من تدشينه انقسم الشارع اقتصادياً إلى نصفين، يفصلهما طريق المدينةالمنورة، بمسافة 15 متراً، هي حرم الشارع، وعشر سنوات هي عمر البعد الحضاري بين الجزء الشرقي المنتهي جيولوجياً في هيئة المساحة، والطرف الغربي المنتهي كيماوياً عند محطة تحلية مياه البحر. وبحسابات المال والأرقام يزداد البعد، فتتراوح قيمة المتر المربع من الأرض البيضاء في الطرف البحري من ستة إلى عشرة آلاف ريال، وتهبط في القسم البري إلى ألفي ريال للمتر المربع الواحد. وعلى رغم قلة الشقق السكنية المنزوية في بعض المباني التجارية المتاخمة للشارع، إلا أنها تصل أجرة السكن فيها إلى 55 ألف ريال، أما المكاتب التجارية وفروع الشركات العالمية فتحرص معظمها الحصول على موطئ قدم فيها تدفع أقل شركة سنوياً 60 ألف ريال، وترتفع في المراكز الجديدة إلى 100 ألف ريال حرصاً على مستوى ورقي وسمعة الشارع الذي استوطنته 70 شركة وأربعة مصارف، وخامس في طريق إلى الافتتاح. ويوضح الخبير العقاري سعد بن ظافر:"إن الاستثمارات في هذا الجزء من شارع التحلية، أو ما يحلو للتجار أن يسموه ب"الشانز"أي الشانزليزيه تصل إلى أربعة بلايين ريال مرشحة للارتفاع إلى خمسة بلايين في حال التأكد من صحة ما تردد عن مشروع إنشاء ناطحة سحاب فيه، إذ يعتبر المنطقة التجارية الثانية بعد الأسواق المجاورة للحرم المكي الشريف. ويفاخر تجار جدة في مجالسهم و"الديوانيات"بالاستثمار في تلك المنطقة، التي حملوا إليها اسم"الشانزليزيه"، ولكن من دون قوس نصر، أو مسلة مصرية، في تشابه ملحوظ ولكن ليس لدرجة التطابق. يقول محمد عبدالسلام السفياني"عندما أتجول في شارع التحلية استرجع الكثير من ذكريات شارع الشانزلزيه، مثل الأسواق والماركات العالمية والمقاهي والمطاعم، إلا أني أجد اختلافاً في إعطاء الأولوية للمشاة ووجود اختناقات مرورية في مثل هذه الأيام". ويضيف السفياني الذي أمضى أكثر من 18 عاماً برفقة والده الموظف في السفارة السعودية في باريس:"المشهد في الشانزلزيه منوع، فمن الممكن أن تجلس على طاولة على رصيف الشارع ويجاورك أحد المشاهير أو رؤساء الدول السابقين، ومثقفون عرب بطبيعتهم البشرية من دون أي أقنعة، مستمتعين بالأجواء الباريسية". المشهد اليومي للشارع الذي يقصده عشاق التسوق والسهر والمعاكسات أو"الغزلنجية"مساءً، ورجال الأعمال ومندوبو الشركات لعقد الصفقات صباحاً، في اختلاف بين غروب الشمس وشروقها، لجني الملايين صباحاً وصرفها في ساعات المساء. ويصطف على جانبي الشارع 22 مركزاً تجارياً، 16منها متكاملة للتسوق، أما الأخرى فتحوي مكاتب شركات ونشاطات أخرى، ومحال فاخرة تُسوق ماركات عالمية لملابس جاهزة وعطور، وأحذية وأثاث شرقية وغربية، وتستعد لاستقبال أربعة مراكز أو"مولات"أخرى مازالت تحت الإنشاء. يسمي أهل جدة الذهاب إلى شارع"التحلية"في أيام العمل"تغيير جو"، حيث يقصدون مطاعمها الخمسة عشرة على أنواعها، منها"الفاست فود"، أو حتى الفول الذي يعتبر الأغلى في العالم في ذلك الشارع، وأخرى تقدم الطعام على أنغام البيانو في رومانسية يتفرد بها سكان جدة. الهروب إلى"التحلية"في ساعات المساء بالنسبة للعازبين ضرورة للجلوس على مقاعد المقاهي الحديثة أو"الكوفي شوب"حتى اجتذب أربعة مسميات عالمية معروفة، إضافة إلى 12 اسماً محلياً، تتفنن في تقديم أقداح القهوة، وأصناف النرجيلة. وآخرون من فئة العازبين يرون أن المكان هو عاصمة المعاكسات، حتى تسللت الفكرة إلى أدبيات الكتابة في الرواية السعودية الحديثة فتصور الروائية الشابة نداء أبوعلي في روايتها"مزامير من ورق"منظر الشبان وهم يطاردون الفتيات بأساليب يبدعون فيها حتى أصبحت من علامات الشارع. ويعترف ماهر أحمد دوس بأن"التحلية""كانت جزءاً من الجدول اليومي قبل أن أتزوج، أما الآن فاسترق بعض الساعات مع زملائي العازبين، للجلوس وتبادل الأحاديث مع فنجان من قهوة الاسبريسو، والاستمتاع بالمناظر التي تجول حول المكان". ويتحدث زملاء ماهر عن سبب اختيار"التحلية"، وسط ضحكات يخفون خلفها مقاصدهم الحقيقية، فمنهم من يرى أنه المكان المعروف لتجمع الشبان، ويصر البعض على نوعية القهوة، أما الأكثر صراحة فيرى أن المنطقة تجذب الشبان، لما تحويه من"جمال". اليوم تصل المحال المترامية على ضفتي"التحلية"إلى الساعات الذهبية، وحتى إشراق شمس يوم العيد، بعد 30 يوماً من حركة البيع التصاعدية في أسواق يصل فيها سعر متر القماش لفساتين السهرة إلى خمسة آلاف ريال.