تزدحم مقاهي الانترنت في مدينة شرورة، قلب الربع الخالي، بالكثير من الشبان القادمين إليها، للتعرف على هذه الشبكة، على خلفية أنها الوحيدة التي تتوافر فيها خدمات شبه متكاملة. ويتحدث مسؤول احد المقاهي حسين باصهيب عن الشبان بقوله:"هؤلاء من البدو الذين يسكنون خارج المدينة بمسافة بعيدة ويأتون إلى هنا لتصفح الانترنت، بل إن كثراً منهم متقنون لها، ومن واقع تعاملي معهم أجد لديهم رغبة قوية في التعرف على الانترنت وأسراره". ومن بين الجالسين كان عبدالله يسلم 18 عاماً الذي يرتاد المقهى ثلاث مرات أسبوعياً يقول:"أسكن في خيام تبعد أكثر من60 كيلو متراً، وآتي إلى هنا من وقت لآخر لتصفح بريدي الالكتروني والدخول إلى ال"تشات"والاستماع إلى الأغاني الشعبية من بعض المواقع". الطريق إلى خيام عبدالله وأهله يبدأ بطريق معبد ثم يخترق الصحراء، ويخيل لمن يسلك تلك الطرق، وكأنه يشق أرضاً مغطاة مفروشة ببرادة الذهب، وأول مقصد له هو إبله التي تأخر في سقيها الماء، وكان في الاستقبال صديقه محمد بن حويلان 21 عاماً، الذي بادره بالسلام قائلاً"قويت"فرد عليه مباشرة"نجيت". هاتان الكلمتان هما اختصار، لجملتين الأولى قواك الله، والثانية أنجاك الله، وتجمع للجماعة، ثم تصافحا بحرارة وتوقفا للحظة وسرعان ما صدر من كليهما صوت خفيف يشبه الصفير. وعلى الفور قام عبدالله بجلب الماء ووضعه في وعاء كبير، فانحت رؤوس الجمال والنوق إليه، وراح يتحدث وهو يتابع عمله"خرج من الصحراء الكثير من العلماء، والأطباء والمهندسين، ولكنهم هجروها بلا عودة، لكن طموحي الذي كنت أسعى إليه، هو أن أكون معلماً اخرج يومياًً من خيمتي مودعاً ابلي وأجمع بين الاثنتين، لكنني تركت الدراسة بسبب قسوة المعلمين، وأعمل حالياً في تجارة الإبل". في "المنتزه" يقول عبدالله الذي يسكن ورفيقه محمد منطقة يطلق عليها"المنتزه"عن طبيعة هذا المكان:"لا نعيش هنا بشكل دائم فنحن في حال تنقل مستمر فمتى وجدنا المكان المناسب انتقلنا إليه على الفور، ولكن لا نبعد فسابقاً الترحال من أجل الماء، أما الآن فنتزود من الآبار القريبة، ويقع الاختيار على أقرب مكان يعيش فيه أفراد القبيلة الآخرون". ويتابع عبدالله حديثه بعد الاستئذان للاعتناء بالإبل قليلاً. ويقول:"نصحو باكراً نصلي ونذهب إلى الإبل لرعيها والاهتمام بها حتى الظهيرة، بعد ذلك أتفقد حاجات عائلتي، وأقربائي، وإذا كان هناك أي أمر يستدعي أن اذهب إلى شرورة". ويأخذ محمد حويلان زمام الحديث بعد أن أستأذن الآخر مرة أخرى لتفقد جمله المحبوب"سويد"أسمر اللون:"لا نستطيع أن نتخلى عن حياة الصحراء، نعلم أن العالم يتطور ونشاهد عبر التلفزة كل جديد من وقت إلى آخر وتعلمت في المدرسة الكثير، وجربنا الحياة في البيوت الأسمنتية، وعلى رغم هذا كله، إلا أننا لا نجد أنفسنا إلا في هذه الخيام وبين هذه الإبل". ويسرع محمد إلى صمام إقفال الماء ليوقفه ويعود ليضيف ما عنده:"حاولت أن أغير حياتي وأسكن في مدينة وعملت في إحدى الشركات، لكنني لم انسجم بها كثيراً وفضلت العودة إلى هنا، وإذا أردت قضاء بعض الفراغ فنلتقي أنا ومحمد مع بقية الأصدقاء في سهرة جامعة أو نذهب إلى شرورة لتصفح الانترنت ومراسلة أبناء العمومة في دولة الإمارات، وسماع الأغاني والدردشة، أو نلعب البلاي ستيشن في المركز الترفيهي". إلى"الحيرة" بعد أن فرغ عبدالله ومحمد من رعاية الإبل انطلقا لزيارة أصدقاء لهما يملكون نوقاً ثمينة، في منطقة تسمى"الحيرة". وتولى محمد قيادة السيارة، لينطلق مسرعاً وسط الرمال ثم حيناً وفوق أرض يابسة جرداء حيناً آخر، إذ يشعر من يمر بالسيارة عليها للمرة الأولى، كأنه يمارس لعبة خطرة في مدينة ترفيهية، وقد يصل إلى الدوار والتقيؤ. ولم يثن كل ذلك عبدالله من الحديث عن علاقات الشباب ببعضهم بعضاً وعلى"رغم أن هذه المنطقة تضم أربع قبائل مختلفة، إلا أن معظم الشبان تربطهم علاقات ممتازة، ولا اخفي في الوقت نفسه وجود نزعات، إلا أن المحبة والأخوة تسود في ما بينهم". وما هي إلا دقائق حتى خرج عبدالله عمير 23 عاماً لاستقبالهما يرافقه والده وشقيقه محمد 21 عاماً أمام خيام ثلاث نصبت بعيداً عن الناس. وفور نزولنا من السيارة، أطلقا عبارات السلام والسؤال عن الأحوال وردوا عليهما، بعد ذلك تصافحوا ودخلوا خيمة استقبال الضيوف، التي زودت بسياج حديدي لمساند الظهر، وفرشة"موكيت"، زادت من جمال المكان، حيث النسمات الباردة كانت تتسلل عبر نوافذ الخيمة القماشية. صديقات"لا يخن" لم تمض ثوان معدودات حتى دخل محمد عمير، وراح يقدم لضيوفه أقداحاً من القهوة، ثم أكواباً من الشاي. في حين يقول عبدالله عمير"نحن نشعر أن الصحراء تجري في عروقنا فيتوقف قليلاً ثم يوجه نظره إلى باب الخيمة حيث الرمال تمتد على مدى الناظرين"، ويقول تخيل الصحراء بلا بدو، لا أعتقد أنني سأرى يوماً الصحراء من دون بدو، وأتوقع أن يكون هناك بعض الإضافات، لكن البدوي لن يترك رماله وناقته وخيمته". ولا تتعدى أحلام عبدالله وشقيقه محمد الذي يحمل شهادة دورة حاسب آلي حدود الزواج والوظيفة البسيطة، والاعتناء بمحبوتيهما النوق"المنيفة"و"الضايفة"، المتميزتين بالوفاء على حد تعبيرهما، ويقول عبدالله" على رغم أني شاب وأفكر في نفسي ومستقبلي إلا أني لا أنسى أبي وأمي وأريد أن أكرس حياتي لهما". وخرج الضيوف ومضيفوهم بعد ذلك الحوار القصير سيراً على الأقدام إلى حيث إبلهم، وكانوا يسيرون بخطى ثابتة، وكعادة البدو فالحديث يتواصل أثناء السير. ويقول أبو عبدالله ذلك السبعيني الخبير بالصحراء"شبان البادية الآن ليسوا كالسابقين، عندما كنا شباناً لم نكن نعرف الراحة أبداً إذ كانت حياتنا بائسة، والجوع يلف البادية، أما الآن فهم يعيشون معنا مرفهين". حليب ب 70 ألف ريال لم تستغرق المسافة سيراً في اتجاه الإبل سوى دقائق، وانطلق كل إلى معشوقته من النوق. وبقي أبو عبدالله يراقب عن بعد ويصدر الأوامر لأبنائه، وأخذ يتحدث عن النوق وهو يشير إليها"هذه من المجاهيم وتمتاز بجمال المنظر، والأخرى من الحرائر ويميزها لبنها الحر، أما تلك فتسمى الزرق ومعروف عنها قطعها للمسافات الطويلة، وسرعة تآلفها مع صاحبها". وانقطع الحديث باستئذان محمد لنا وطلب إلينا التراجع إلى الوراء بعيداً، سألنا عن السبب. قال إنهم سيقومون بحلب إحدى النوق وسيجلبون لها أحد أبنائها، وقد يصل يستغرق ساعة من الزمن، لكنه لم يستغرق سوى دقائق معدودة. وانتهى محمد وعبدالله عمير من حلب الناقة التي اخبروني أنها،"مسيومة"، حيث عرض أحد تجار الإبل 70 ألف ريال 18667 دولاراً ثمناً لها، وقدموا وعاء يسمى"الغضارة"مملوءاً بالحليب ورغوته كانت تشبه"الكابتشينو"، ثم قدموه لضيوفهم، ومع اقتراب غروب الشمس، ودع عبدالله يسلم ومحمد حويلان مضيفيهما. قد يستغرب الزائر لتلك البقاع البيضاء، تمسك أهلها بالعيش تحت قطعة من القماش، وبين لفحات رمال الصحراء، حيث يلفهم البرد القارس شتاءً، والشمس الحارقة صيفاً، ولكن تاريخ العرب مليء بعشق الصحراء. ويعكف عبدالله وصديقه محمد، على تحقيق حلمهما بان يكونا"أول من يسجل دخول الإنترنت على خيمة في الصحراء، بواسطة الهاتف الجوال"، بعد أن جمعوا المال لشراء كمبيوتر محمول، وتسجيل اشتراك في خدمة"جوال نت"، كي لا يفارقوا أرضهم وإبلهم ومعشوقتهم الصحراء. كل شيء يتطور، والتقنية تنتشر في كل مكان حتى طاولت البدو في الصحراء حيث يسكن الخيمة ويعيش مع الإبل، فهل ما زال علم البدوي كما يصور مغلقاً بين ناقته وخيمته وعلاقاته الاجتماعية داخل نطاق العشيرة؟ "الحياة"ذهبت إلى الشبان في الصحراء وعاشت معهم تجربة يومهم العادي، المليء بالعمل والعشق لكل ما يدور حولهم، كانت بساطة رفقاء الشمس، أجمل ما زين هذه التجربة، تحدثوا عما يختلج صدورهم ورغبتهم في اتقان كل ما هو جديد لمواكبة العصر، واصرارهم على تغيير ذهنية قديمة عنهم. جيل البداوة الجديد يخالف نظريات الرحالة يقول أستاذ علم الاجتماع الدكتور أبوبكر باقادر"إن العلوم الاجتماعية تؤكد أن البداوة والحل والترحال، أسلوب حياة اختياري، وليس إجبارياً"مدللاً على ذلك"وجود تجمعات بدوية مجاورة للأرياف والحواضر". ويرى باقادر أن من أهم الأسباب التي تجعل البدوي مرتبطاً بحياة الصحراء محبته لحياة الحرية، وعدم قبوله لقيود المدنية، والأماكن المزدحمة، لافتاً إلى أن هذه الممارسات تؤكد نظريات الكثير من علماء الاجتماع حول حياة البداوة. ويلخص أستاذ علم الاجتماع بان استمرار الحياة في البداوة، ووجود جيل جديد يخالف نظريات عدد من الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية وتنبؤوا باندثار الحياة البدوية مستقبلاً، ويؤكد في الوقت ذاته نظرية مارك حول الصراع الطبقي والعيش على الكفاف، مشيراً إلى أن الدراسات تؤكد أن البدوي يملك قدرات عقلية متميزة وفقاً للدراسات التي أجراها عدد من الاختصاصيين.