جاء"برغش"إلى قرية الخويلدية في صباح يوم مشرق. تجول بين بساتين النخيل. ألقى نظرة لا مبالية على منازلها الطينية القليلة. توقف عند مزرعة تبعد قليلا من تلك البيوت. أصغى إلى هدير الماء في باطن الأرض، قبل أن يقرر الحفر، ولم ينته إلا وقد تفجرت المياه تحت قدميه. ويختلف أهالي المنطقة في اسلوب الحفر، فمنهم من يقول انه استخدم اداة ما، ومنهم من يقول انه حفرها بيديه، ويزيد بعضهم ان قطعاً معدنية صفراء خرجت مع شلال المياه المتدفق، وتعبت الشاحنات من حملها. لكن ما اتفقوا عليه كان إطلاق اسمه على العين، على رغم أن احدهم لا يذكر من أين أتي. وتحتضن قرية الخويلدية ما يقارب 20 عيناً، بعضها داخل القرية والآخر في المزارع المحيطة بها. وحمل بعض العيون اسم المزرعة التي يقع فيها أو اسم صاحبها. وطالت يد الإهمال غالبيتها، ففقدت ملامحها الخارجية، وانحسرت المياه فيها، مما دفع المزارعين إلى استخدام مضخات المياه. ومن العيون التي لن تلحظ لها اثراً عين"القشورية"، الواقعة على الشارع الرئيس للخويلدية. وربما ما زال بعض من شباب القرية يذكر تصاعد البخار منها في الصباح البارد وهو في طريقه إلى المدرسة الابتدائية، مغرياً بأخذ حمام ساخن. وتتميز غالبية العيون في المنطقة ببرودة الماء في الصيف وحرارته في الشتاء. ومن العيون التي اندثرت ولم يعد يتذكرها إلا الكهول من سكان القرية، عين"الغربية"التي تقع غرب القرية كما يتضح من اسمها. لكن الجميع يتذكر بلا استثناء، دورات المياه العامة التي بنتها الدولة، إلى جانب العين التي اندثرت ملامحها تماماً. ويبدو شبان القرية أكثر علماً بالجوالات وأنواع السيارات من تاريخ عيون قريتهم. لكن كبار السن يحفظونه عن ظهر قلب. وتضم القرية عين"ياسين"و"الصليبي"وعين"بت ثابت"و"المجيلس"و"البسيتين"و"ام قرين"و"العصفورية"، إلى جانب بعض العيون وراء المزارع مثل عين"الحساوي"و"الطوفية"وعيون"المنتفخة"و"الحشيفية"و"الحريزية"التي كان يغتسل في مياهها الأزواج الجدد. وتبقى عين"الديرة"الواقعة في وسط الخويلدية، أكثرها غموضاً بسبب الجدار الإسمنتي الدائري الذي يحيطها. ويتردد بين السكان أنها مسكونة بالجن أو ما يسمونه"الراعية". وهم يتذكرون غرق احد أبنائهم فيها، وفشل محاولات إخراجه منها أو العثور عليه. وما اثار دهشتهم أنهم عثروا عليه في عين أخرى، خارج حدود القرية. ويقول بعضهم إن الجثة انتقلت عبر ممرات مائية تقع في باطن الأرض وتربط كلتا العينين. ويتناقل الأهالي قصة النار التي اشتعلت في عين"الديرة"، وعجز الدفاع المدني عن إخمادها. وتكاثرت حينها الاقتراحات منهم، لإيجاد السبيل للخروج من هذه الورطة. قال بعضهم إن سبب النار هي"الراعية"، وقال آخرون إن النار قادمة من مصدر العين تحت الأرض. لكن اللهب لم يستمع إلى تلك الأقوال ولم يخضع لخراطيم المياه التي تصب فوقه. ونام فوق الماء بعدما كف الجميع عن ملاحقته.